الجمعة 26 نيسان 2024 | 12:1 صباحاً بتوقيت دمشق
ياسر اسكيف

البلاغة السّرديّة والكتابة الجديدة

البلاغة السّرديّة والكتابة الجديدة
أمبرتو بوشيوني (1882 - 1916) إيطاليا.
  • الثلاثاء 9 تموز 2019

(لا أظنّه العنوان الأكثر صلاحيةً من حيث الدّقّة والشّمول معاً، ولكنّه الأقرب إلى روح المقال الهائمة. إذ أشعر بأنّي أسلكُ درباً لا أثرَ لخُطى سابقة عليه، وأنّني قد تخلّيت عن الحذر لصالح خلق مساحة مناسبة للحوار. ويمكنني القول بأنّ روح البحث في مطارح جديدة هي ومقلقة وهائمة).
حينما أتحدّث عن (كتابة جديدة) فأنا أقصد بالتّأكيد ما هو أعمّ وأشمل ممّا يُسمّى (قصيدة النّثر) أو (النّص الشّفوي) أو (النّص المفتوح) وسائر الاقتراحات اللامحدودة لتأطير نمط مختلف من الكتابة، ما زالت ملامحه المُميّزة غائمة، وصعبة التّحديد.
وهذه الكتابة، إن كان لها من قرابة مع الشّعر، فإنّما هي ذات القرابة التي تربط الشّعر مع كلّ أشكال الآداب والفنون، وهو الجنوح إلى التّفكير والإحساس بالصّور على أنّها مُفردات لغة لا تكفّ عن التّشكل والإمحاء.
وأقصد بهذه الحركة التبادليّة لغةً غير متعيّنة في الحقيقة خارج النّصوص. التّفكير والشّعور بالصّور، أو بوساطة الصّور، كي لا يكون تعبيراً مُلتبساً، هو المُشترك الوحيد الّذي يمكن تحديده كعنصر اشتراك وارتباط بين أشكال الكتابة الجّديدة والشّعر.
كلّ غريب وخارج على المألوف، وكلّ مفاجئ بحدوثه على غير مثال، وغيرها، بما يُحدثه من ارتجاج وبلبلة في ساحات التّلقي الجماليّ، وحتّى المعرفيّ، وبما يثيرهُ من إحساسٍ بالخيبةِ حيال الاطمئنان الرّاسخ عن مدى الإحاطة والاكتناز، درج العموم على دعوتها، بمعزل عن مكان تواجدها، بالمواقف والصّور والمناخات الشّاعريّة، أو الشّعرية.
(منظر شاعريّ!!) يقول أحدهم (موقف شاعريّ!!) يقول آخر(حدث شاعريّ) إلخ... الشّاعريّة إذاً ليست لغة فحسب، وبالتّالي ليست قولاً كتابةً شعريّة، بل هي بلاغة ميّتة لغوية. والجّذر الشّعريّ الذي بقي الوريث في وصف تلك البلاغة إنّما يعود إلى سبب تاريخيّ، حيث كانت الهمهمة والدمدمة، ومن ثمّ التّرتيل والإنشاد، وبعدهما الغناء والشّعر.
الشّعر هو آخر الأشكال التي سيطرت، إضافة للعمران، والقليل من النّقوش والتّماثيل، على احتضان البلاغة والتّمتع بالحقّ الحصريّ على استخدامها.
مع بدء انتشار النّثر وتأكيد موقعه في التّعامل بين الأفراد والجماعات البشريّة، حاول النّظم أن يُبقي على استئثاره بالبلاغة، لكنّه لم ينجح إلّا بتلك المنظومة، أو القادرة على الانصياع للنّظم. وعند هذا المُفترق كما أظن تحرّرت البلاغة وتعدّت حدود الأدب لتصل إلى القانون والسّياسة وربّما الفيزياء.
البلاغة ليست حكراً على الأدب، وعلى الشّعر منه على وجه الخصوص، فهي ليست التّشبيه والكناية والاستعارة و و و، إنّما هي في الكثير من المواقع والأحيان القدرة على إيصال المُراد
بالاستغناء عنها جميعاً. وهنا، عند هذه الدّرجة من القدرة على تنقية المشاعر والأحاسيس، وفصلها عمّا يشوبها من أشباه، نكون قد تخلّصنا تماماً ممّا يُدعى المترادفات، وبالتّالي تخلّصنا من خدعة الافتراض، ومن سلطة النّيابة الغاشمة في أغلب الأحيان. وأقصد من العيش في الّلغة على أنّها الحياة.
وهنا لا بدّ لنا من الإشارة إلى التباس حاصل دوماً بين صورة بلاغيّة تقوم على النّقاء البلاغيّ وتذيعُ إحساساً يتخلّق في الآن جديداً طازجاً، وبين تلك التي تعتمدُ المُفاضلة بين أسماء ونعوت لصوغ الشّعور أو الإحساس المرغوب إيهام الذّات به قبل الآخر (وهذا ما يمكنني دعوته القافية النّثرية)؛ لأنّ التّأليف هنا هو الحاصل، وليس التّجربة.
والتّأليف كما أرى أقرب إلى وسمِ الشّعر منه إلى وسم الكتابة الجديدة، فهذه الأخيرة أكثر تحرّراً من عبء التّأليف، لأنّها أقلّ استلاباً من أشباهها تجاه الأبوّة والانتماء.
وأقصد بالأشباه تلك الكتابة المهمومة بالانتماء إلى نوع، فتخسر، تحت ضغط هذا الهمّ كلّ ما يجعلها أهلاً للانتماء.
وفي العودة إلى ما يسمّى بـ (قصيدة النّثر) على أنّها تسمية جائزة لنوع من الكتابة، وليس لصنف من الشّعر، فلا بدّ من سؤال من يدّعي كتابتها، أو من يكتبها فعلاً، عن قرابة ما يكتب بما كتبه أنسي الحاج ومحمد الماغوط وجبرا إبراهيم جبرا وتوفيق الصّائغ، وإلى حدٍّ ما أدونيس، على أنّهم روّاد قصيدة النّثر العربيّة الذين أوصلوها إلى أبهى حالاتها، إذ لا أظنّ، ولا أتوقّع، بأنّ خلافاً قد يحدث، إذا حجبنا التّسمية عن كلّ الذي يُكتب الآن، على أنّه وريث لتلك. إذ ما من مُشترك إلّا الاتّكال على ضروب البلاغة التقليديّة للنّهوض بأعباء النص. وكلّ من يجرؤ على التّمسّك بصفته وريثاً لقصيدة نثر المؤسّسين هو إمّا لا يثق بقيمة ما يكتب، أو أنّهُ بحاجة دائمة إلى عباءة تريحه من شبهة الاختلاف.
نهايةً؛ لا بدّ من قول ما أراه حقيقة شبه مكتملة الأدلّة وهو أنّ كتابة اليوم تختلف، ليس بالسّوية فحسب، اختلافاً بيّناً وواضحاً عن كتابة الأمس، وهذا أمر يرفضُ الجميع قبوله كي لا يفقدهم ذلك لقب (شاعر). ولهذا الجميع أقول: بأنّه ما من ميزة بقيت للشّعر غير إصراره على استبدال الحياة بالمفردات، والاستعاضة عن العيش بتقليب الصّور والمجازات.
لا أرثي الشّعر هنا أبداً، إنّما أشعر بالشّفقة على كتّابه ومؤلفيه.