الأحد 28 نيسان 2024 | 9:32 صباحاً بتوقيت دمشق
عواطف بركات الجاروف

مرايا الشعر في النثر والتشكيل

مرايا الشعر في النثر والتشكيل
فاسيلي كاندينسكي (1866-1944) فنان روسي.
  • السبت 1 حزيران 2019

إذا كنّا نريد البحث في بعض الروابط السحرية التي تجمع بين الشعر والفنون الأخرى فلابد من السؤال التالي: ما هو الفن؟
قد يخبرنا أحدهم أن الفن محاكاة وإعادة تدوير للواقع، وقد يعرّفه آخر بأنه خرق للسائد والمألوف، وقد يعبّر ثالث عنه بالغموض الذي يملك عناصر السحر والتأثير.
في كل الأحوال فإن الشعر والفنون الأخرى تلتقي في النفس البشرية لتزعزع الركود والنزعة للمألوف والروتيني وتبعث أطيافاً من الوعي والتفكير وتنشئ أصواتاً داخلية مختلفة في الروح، هذا إذا فرضنا مسبقاً نوعاً خاصاً من التلقي، إذ لا يمكن القول عن فضاءات وأفق بعيدة إلا لدى متلقٍ ذي ذائقة واعية مدركة للحدود الفاصلة بين الفن والحياة وبين فنٍ وآخر.
إذن ثمة من يتبنى الإبداع باعتباره حاملاً (الشاعر أو السارد أو الدرامي أو الفنان التشكيلي) ذلك الإبداع الخاضع لقوانين وتوصيفات وشروط تعتمد أولاً وأخيراً على النضوج والوعي لدى الفنان والشاعر، وعلى مقدرة كل منهما في إثبات حضوره في المشهد النفسي لدى القارئ أو المتلقي.
على الشاعر أن يسعى إلى اللغة في القصيدة، بينما يركز الكاتب الناثر على المعنى، وثمة تشبيه ممتع وحقيقي قال عنه "بول فاليري" حين شبه الشعر بالرقص والنثر بالمشي، هكذا، يبدو الهدف من الشعر هو الشعر ذاته بينما يتطلع النثر إلى معنى بعيد.
ولعل قصيدة النثر خير مثال على التداخل بين الجنسين، حيث أخذت من النثر تَحَرّره من قيود الوزن الشعري، ومن الشعر تَحَرّره من مباشرة المعاني، كما يتضح في الشعر العربي الحديث الخروج عن التقاليد الشعرية المعروفة ما أتاح للشاعر التعبير بدقة وصدق عن تجربته.
فقد تم رفع سوية التكثيف والتخييل والتقاط الصور الجديدة وإعادة صياغتها شعرياً معتمداً على الرموز والتراكيب المحدثة، وتم استقدام تقنيات السرد، وتوظيف الدراما، الأمر الذي ساهم في تحويل النص الشعري إلى ساحة لصراع شخصيات وحوار أصوات متعددة ضمن زمن شعري يحدده الشاعر، كل ذلك يتطلب من المتلقي- القارئ، وعياً عاطفياً ووجدانياً للتفاعل مع تجربة الشاعر والاقتناع بها عن طريق البحث عن المدلولات النصية وتفسيرها والاستعانة بها لكشف المعنى المراد قوله.
إذن يمكن الاعتراف بقصيدة النثر بوصفها مكون يدل على الحداثة الشعرية، واعتبارها منافساً حقيقياً للشعر التقليدي الذي ما عاد بإمكانه التجاوب مع هموم الإنسان وتصاعد أزماته النفسية وصراعاته القائمة مع ذاته ومع المحيط، تأتي قصيدة النثر لتشحن المتلقي بالانفعالات وتسحره بقدرتها على الولوج إلى مواضع ألمه، كما تأخذ بيد الشاعر والقارئ على حد سواء للانسجام مع القبح الكوني أو الجمال المشوه الذي يسود العالم.
رسائل الظل- مجازات اللغة:
منذ "سيمونيدز الكيوسي" الذي قال بأن: "الشعر صورة ناطقة أو رسم ناطق، وأن الرسم أو التصوير شعر صامت".
وحتى اليوم تبدو العلاقة بين الشعر والتشكيل علاقة قابلة للجدل، فالبعض ينفي وجود العلاقة، باعتبار أن للفنين مناطق تأثير مختلفة وأدوات مختلفة ورؤى متباعدة إلى حد ما.
كما صنف الناقد الألماني "أفراييم لسنج" الشعر بالفن الزماني والرسم والنحت ضمن الفنون المكانية، أي يقف أحد الفنين على تخوم الآخر ولا يندمج به، وراح المؤيدون لهذه العلاقة بين الشعر والتشكيل إلى الحديث عن وسائل الكتابة للإنسان الأول التي كانت عبارة عن نقوش على جدران الكهوف، أي للكلمة صورة، وللصورة معنى يصب تماما في معنى الكلمة، لذا ظهرت ونمت العلاقة بين الشعر والفن التشكيلي كإحدى نتائج التأثر بالتصوير البصري في الشعر القديم عالمياً وعربياً، وبرز عدد كبير من الرسامين الشعراء أو الشعراء الرسامين، هؤلاء الذين يكتبون الشعر ويرسمون كـ "فيكتور هيغو" و"دانتي" و"جان كوكتو".
أما في الشعر الحديث، وبعد الثورة المعرفية نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، تم بوضوح الاندفاع نحو التشكيل، حيث استعان الشعراء بتقنيات الفن التشكيلي، وبرزت الحداثة الشعرية التي تأثرت تباعا بالمدارس التشكيلية، ولعل انتشار صيت تلك الأعمال العظيمة من لوحات وتصوير ونحت، كان لها الدور الأكبر في استقطاب اهتمام النقاد والشعراء على حد سواء، ودفعت بالشعر إلى مساحات مضيئة غنية بالاستعارات والمجازات محاولة إظهار الانفعال والتفاعل مع مكونات وتيارات الفن التشكيلي الحاضر على ساحة الفن عموما.
اللون بين التشكيل والشعر
لطالما كان للون دلالات متعددة، عامة وخاصة تختلف حسب طبيعة الشخص وحالته النفسية. واللون أحد أهم صفات الأشياء، كما يدعم الرؤية الفنية في الشعر، وقد انتبه شعراء الحداثة إلى أهمية اللون ودلالاته، فاستعانوا به واستثمروا إمكانياته السيميائية لتشكيل صفات حسية لموجودات معنوية، النماذج كثيرة في هذا الخصوص عالميا: "لوركا" و"رامبو" وعربيا "نزار قباني" و"محمود درويش" وكثر من اعتنوا باستقدام اللون إلى بنية العمل الشعري، للمساهمة في رسم الصورة الشعرية.
قصيدة من التشكيل:
ظهرت بعض النصوص الشعرية التي تستلهم عوالم فنان تشكيلي بعينه، والتبحر في عوالمه الفلسفية والفكرية والفنية، وفي أحيان أخرى تم استحضار منجز تشكيلي لأحد الفنانين ومحاكاته شعرياً.
تلك النزعات إلى التشكيل أبرزت قوة التأثر به وإلى محاولة الرسم بالكلمات، ما دعا المتلقي أو القارئ إلى اعتبار النص الشعري لوحة وعليه تلقيها بصرياً وحسياً بآن واحد، تأتي قصيدة البياتي نموذجا من خلال نصه (إلى بابلو بيكاسو) وفي نص آخر للبياتي يحشد فيه كثيراً من الصور والأسماء لشعراء وفنانين وقادة، يقول:
(لوركا) يغتسل الآن بينبوع الدم
(ماشادو) تحت رماد النجم
يكتب في حجر بركاني فوق الثلج
(ألبرتي) في روما، يستقبل في غرفته، الآن الشمس
(بيكاسو) كالطفل ينام سعيداً، منتظراً، خاتمة الدرس.
هكذا تبدو العلاقة بين الشعر والفنون مفتوحة، وقابلة للتغيير وموائمة الظرف الإبداعي السائد، ما يمثل تحدياً يتمثل في المقدرة على الاحتفاظ بالهوية الفنية لكل جنس بشكل مستقل عن الآخر، وبالتالي تمييز وظيفته الإبداعية عما سواه، على أي حال لن يخدم التمازج وذوبان أحد الفنون بفن آخر أية قضية، وإلا لكان في العالم الأدبي فن واحد وحيد يمثل ويؤدي الغرض، وهذا ما لا نرجوه، بل ونؤكد على التنوع الذي يثري الآداب الإنسانية ويدعم قضاياه بالمطلق.