السبت 27 نيسان 2024 | 2:59 صباحاً بتوقيت دمشق
نور طلال نصرة

"وقالت مريم لابنتها" لـ أريج حسن: البنت الّتي تنظّف قلبها وتقفله

غلاف الكتاب
  • الجمعة 3 أيار 2019

تحاول الشاعرة السورية أريج حسن في مجموعتها الجديدة (وقالت مريم لابنتها- دار دلمون 2019) أن تقترح قلقاً شعرياً مختلفاً في مسرح القلق الطبيعي المسموح به والمتعارف عليه باستعارات من قواميس الحكايات الدينية.
وليأتي العنوان بمكانة دلالية ووجوديّة لما تحمله الأنثى من وشائج الحزن والألم، وما يتكوّن في داخلها من براعم الحياة الأولى، فهي تضع الشّعر في مواجهة أسئلة وجوديّة في بذرة تكوينها. المفردات هنا على بساطتها تتنوع ضمن غمار الأجواء الدينية، وتحمل دلالات ذات جذور تاريخية وعمق فلسفيّ مثل: "إبليس، يهوذا، المسيح، يوسف، إخوان الصفا، إسرائيل، الإله بعل".
يقول الشاعر السوري أدونيس: "إنّ الشّعر رؤيا، والرؤيا بطبيعتها قفزة خارج المفهومات السائدة". والشاعرة هنا تعيش مخاوفها بواقعية وتطرح رؤيتها لعلاقة الأنثى بعوالمها الداخلية والخارجية المتدفقة من ذاتها أولاً، ومن مكنونات لغتها ثانياً، فكلّما استجابت الأنثى لداخلها كلّما توسّع عالمها الخارجي، ليس انصياعاً بل تغلغلاً في ثوابت الوجود، ليغدو عالم الأنثى الضيّق خارج جسدها فسيحاً في داخلها ومكتملاً في روحها "المرأةُ/ بنت الضوء/ حتى في العتمة/ تصيرُ نوراً/ سلام عليك / باقٍ/ فوق الحياة".
يتجمّع العالم الأنثوي داخل الشاعرة، يتكاثف بشدّة ليتهاطل قصائد من شتات عميق، وإرث دفين قد يعود تاريخه لأول ألم عاشته حوّاء. إرث متماهٍ تماماً مع شفافيّة الصور الشعريّة واستغراقها في تطويع ذاتها، حيث تعيد صياغة نفسها وتثبت أن الشّعر قادر أن ينجو ويصل إلى الضفّة الأخرى بأمان ويترك أشلاءنا تتعثر هنا. وهذا ما نلاحظه في نص: أقفاص الكمانات: "وكنت أسمع عندما وضعني على أذنه:/ قبل تاريخ البحر عشت سنيناً على الشاطئ/ كان صدري مملوءاً بالبقع/ وكنتِ تلسعينني أكثر منها"
ثمة عبارات في القصائد تشكل تكوين شعري تام، وصورة خاصة تعكس المدى المفتوح لصوت الشاعرة مثل: (وقالت مريم لابنتها- بعض الأسرار ثقيلة- كوني حجارة قلبي- أقذف فيكِ زيت السماء- كانت البنت تكلّم نبيّها- وكان النبيّ أصم- ساعة السحر- ساعة القيامة).
هي جُمل متجزأة من قصائد مختلفة لكن إذا ما قرأناها مع بعضها نجد وكأنها قصيدة واحدة، ربما حديث الشاعرة لم يتوقف ولم ينته في قصيدة واحدة بل قد يمتدّ إلى قصائد قادمة.
ويحيلنا العنوان المؤنث لـ "أنا" الشاعرة وطبيعة الطقس "المريميّ" إلى أجواء من حديث مريم الأزليّ وتجليات عشتار في داخل كلّ أنثى، سواء كانت تعرفها أم لم تتعرف عليها بعد: "أنا امرأة أنسكب في مريم/ أهرق روحي في تقصّي/ السلالات الأولى للرّحم/ أبني سدوداً لفيوضي/ وأسجد عندها مقدّسة مباركة/ كأنني الطّلع ينغرس في الماء"
نلاحظ في بعض القصائد نوعاً من التجدّد قادر أن يقدم لذائقتنا بمفردات متشابكة وخصبة تعتصر ألمها تارة وتعلو برهافتها الشعرية تارة أخرة: (سنصيرُ عجينة/ نلتصقُ ببعضنا/ ويطهو كلّ منّا الآخر/ على ذات واحدة/ وستشعّ من تحتي نار هائجة
عظمي ذائب وكلّي يرفض كلّي/ ما النار إلاّ حاجة اليابسة للنّور؟".
تعمل الشاعرة على تمرين لغتها لتعلن انفكاكها عنها لكنها تفشل في سدّ ذريعة الالتحام، تُخرج مُكاشفات علنيّة توسم بعض القصائد بالتضاد والاستفهام: "إنّي امرأةٌ نصفي علقم/ والباقي يأكله الضوء/ كيف لهذا الماء أن يقتل حرّ الرمل بين أصابعك؟ /من يحمل عني هذا الوجع؟ /لمن حبل الغسيل يصطف عليه سياسيّو الأمس؟ /ولمن المدائن تعلقُ في رائحتها عرق الشرق؟".
كما يشغلها البحث عن الطمأنينة في ملكوت الأديان مجتمعة في رؤية واحدة تكون ملاذاً للغتها ولخوفها وإرثها الذي حملته منذ بذور الخلق الأولى، تقول في قصيدة راهبة: (عيني ممتلئة بالبعوض/ وأنا أنزّ مثل راهبة/ تتعفّن في قلق نهديها/ تشدّ رحمها/ لطفل جديد. /أعدُّ فرط مسابحي/ أمسحُ عن مصحفي زيتي/ أسجد للملائكة / في رأسي/ وأكمل عنهم الرحيل" وفي قصيدة قديسة: "ممتلئة بالخطايا/ البنت التي لا تعرف الحب/ البنت التي لا تسمي على القبلة/ قبل أن تضعها على محجر الرؤية/ البنت التي تنظّف قلبها وتقفله/ لأن الموسم القادم سيكون أكثر شحّاً".
إن عناوين مجمل القصائد تسود فيهل الأجواء الكنسيّة التي وجدت حاضنتها في الخلفية الثقافية للشاعرة، وثمة استحضار لصلوات وتراتيل ارتوت من ماء زمزم وتباركت بزيت مريم: (راهبة- قدّيسة- مزمار الراعي- مالك التقويم- في قداس مهيب- القلب الأقدس- بيدر قطن- هللويا- يا أبتِ).
تقول الشاعرة: "هي الماء في الرّحم يضيء/ صلاتك قربان قلبي/ والزّيت نرجس يعمّ البلاد/ في قدّاس مهيب/ يتحوّل الماء إلى زيت/ عنق الرّحم إلى شمعة/ الأصابع.. أجراس/ والجسد.. حبّات الزيتون/ تتدفّق بسخونةٍ عالية".