الأربعاء 13 تشرين الثاني 2024 | 9:23 صباحاً بتوقيت دمشق
ليث الحجوان

اللّاعقلانية (عبثيّة الحياة)

اللّاعقلانية (عبثيّة الحياة)
جورج براك (1900-1963) فنان فرنسي
  • الأثنين 1 تموز 2024

كلّ الأشياء من حولي تهم بالرحيل وتقول لي ارحل، لكني أغالب الصمود في ذات المكان، أحاول ترتيب الأوراق من جديد، أعيد كل شيء لما كان عليه قبل أربعة عشر ربيعاً، لكنني حتى في هذه فشلت، ترى ما هذا الذي يصيبني، أخوف من تلك الأيام التي تسابقني لئلا أصل؟ سخيف هذا التفكير الذي يسوقني كالسجين، ما حيلتي وقلبي مملوء بالجراح، تتملكني أشياء غريبة كحبّ البقاء في مكان لم يبقَ لي فيه سوى بعض أوراق لم يأتِ خريفها بعد، وبعض كلمات وكراس وقلم؟ يا لهذا الشتات! كلّهم رحلوا، لم يبقَ شيء في المكان سوى طاولتي وكوبُ القهوة المرة، أتجرعه علقماً وأشعل داخلي بسيجار يمتص خيمياء هذا المجهول، أبحث في الماضي عن أيام كانت تخلو لنا ولأحبة رحلوا، كقدسية النهر، حياة أفرغت تفاصيل بهجتها كما يفرغ الكأس من الماء.
لست أدري لم تملكتني كلّ هذه التساؤلات، ولم تحاول نسج ذكرياتي بخيوطها العتيقة، ما فعلت بيَ الأيام وقد فقدت صندوق جدتي، لست أدري؟
لا أعتقد أني أمتلك الجواب في غفلة تغير فيها كلّ شيء، ننتظر الأقدار علها تتغير، لكننا تغيرنا ولم يتغير شيء، سوى أننا بقينا على حافة الحياة ننتظر، ربّما يأخذنا الشرود فنبحث في قاع الحياة عن مأوى مناسب لنا، فكلّ القوالب قد كُسرت، وغرقنا كالهلام بلا قوقعة.
لم يبقَ في كرّاسي أي زاوية لأكتب كلمات تشبه الوداع الأخير، كم من لا عدل في هذه الأرض وكم من لا حياة بالحب! ربما نحاول شيئاً فشيئاً أن ننسى ما نحن عليه، لكننا أسيري ذواتنا المتعبة، في كل لحظة تتناولنا الأخبار على مائدة البشاعة لتنهش بقايا إنسانية تحاول البقاء، خبر يأتي، خبر يذهب، والشاشة تفرغ فينا كل عذابات العالم، متخومون بالرعب وبجولات الهزائم، نهرع بأقدامنا ونهجر المكان حيث سُقيا الضمير جفت، فلا زيتونة لنا فيها، ولا حجر يهدي.
طرق الأقصى قد ضاعت مسالكها، والجسر ما عاد يحملني، أعود لعزلتي وكراريسي لأنظم ما تبقى من حلمِ البحث عن ذاتي متجاهلاً كل المتغيرات، أفتح مذياعي القديم لأستمع لصوت (أم كلثوم) وهي تقول لي "أنا وأنت ظلمنا الحب"، ياه، ألم تكن تعلم بأنها اختصرت الحبّ كله بكلمتين، وأننا لا نقوى على فهمه، لكننا نحاول أن نعيشه دون وعي بفرحة الأطفال؟ نعم رأيت الحبّ بعيونهم الصغيرة البراقة، لقد رأيته تحت الجدار.
يا له من كراس مؤلم ذلك الذي يحتويني من الجسر إلى الجسر، سواد يذيل صفحاته كل ليلة قبل النوم، ويمحي الأزرق المتموج تحت قوارب الرحيل، دون أن يهدأ عقلي بالتفكير بكيف وكيف وأسئلة لا جواب لها، سيأتي يوم نموت فيه بحسرة الإجابة عن سؤال يتضمن سعادة الحياة.
أغلق كرّاسي، وأنتظر يومي كي ينتهي بسلام.