الأربعاء 13 تشرين الثاني 2024 | 9:28 صباحاً بتوقيت دمشق
عمر الشيخ

"إيماءات" يانيس ريتسوس: عدميّة المعنى في السكون الكبير

ريتسوس (إنترنت)
  • الثلاثاء 23 كانون الثاني 2024

كثيراً ما نقع في شغف التنقل بين مختارات شعرية على هيئة رحلات استثنائية مصورة لغوياً، من الذاكرة إلى أحلام الشعراء مروراً بالذات، صراعاتها، وحدتها، ألمها، فرادتها وعالمها، وصولاً إلى احتمالات مفتوحة على المخيلة والالتقاط الذكي للمشاهد والشهادات.
من خلال هذا الانطباع يمكن الدخول إلى مجموعة "إيماءات"، وهي مختارات شعرية للشاعر اليوناني يانيس ريتسوس (1909-1990) ترجمها الشاعر الراحل سعدي يوسف.
المجموعة أربعة أبواب موزعة بحسب مختارات المترجم للقصائد الأكثر تنوعاً في تجربة ريتسوس، حيث نلاحظ مدى التنقلات في الشكل والبناء الشعري من قصيدة إلى أخرى.
في الباب الأول مختارات من "أحجار" (1968) حيث نلاحظ التركيز على محاولة اقتناص الحالة الدرامية الممتزجة بتركيب بصري يذهب أكثر ما يمكن نحو صناعة حدث الصدمة من خلال أسئلة فطرية تتسم بالبراءة والمغامرة في موازاة تلقائية إنسانية تنحاز إلى سرد التفاصيل بصياغة شعرية خاصة: "النهر صامت كما لو كان غارقاً./ الغسق يهبط، والأبواق تغلق/ وتظل امرأة واحدة، بلا جرة في الحديقة، امرأة من الماء/ شفافة في ضوء القمر/ وزهرة في شعرها".
أحياناً يتجه الشاعر نحو الافادة من شعرية الاستعداد للحظة القصيدة، ليصوّر مجدداً أحوال الزمن في مخيلة ذاته، فنتلمس خامة الحدث قبل حدوثه بثوانٍ ثم نكتشف في النهاية أن القصيدة قد تكون بهذا الذكاء أو ربما بتلك الفلسفة الخاصة لحكمة التأمل: "غيوم على الجبل/ من الملوم؟ من الملوم/ صامتاً، متعباً، ينظر أمامه/ يستدير، ينحني/ الصخور في الأسفل/ والطيور في الأعلى/ جرة في النافذة ونباتات شوكية في الوادي./ يداه في الجيب/ ذرائع، ذرائع. القصيدة تتأخر. فارغ./ الكلمة يدل عليها ما تخفى".
يختار المترجم في الباب الثاني قصائد من ديوان "إعادات" الصادر عام 1969، يحتوي على أجواء ثورية كان ريتسوس يحتفي بها مع نفسه وأصدقائه، ويرسم من خلالها قصصاً لأحداث حقيقية وأخرى حدثت في ما بعد.
نلاحظ مدى حرص المترجم على رصف القصيدة بإيقاع موسيقي خافت من شأنه إغفال حالة السرد النثرية التي قد تحول القصيدة قصة شعرية أحياناً: "آخرون قرروا، وآخرون تكلموا باسمهم./ وهم كما لو كانوا غائبين،/ مثل الخارجين على القانون/ "خارجون على القانون حقاً"-/ سمعوا أسماءهم في مكبّرات الصوت/ وأنصتوا للاتهامات ولإدانتهم/ رأوا أكداساً من العلامات- كم من تهديدات وتحريمات-/ علامات معدنية لم تقرأ".
تأتي الفلسفة في طيف بعض الجمل الشعرية كموعظة مجربة تستثني من الحالة المرسومة في النص مفارقات الصورة وتتجه نحو حالة النداء والتحذير، كما في قصيدة "قبور الأسلاف": "علينا أن نحرس قبور موتانا/ فقد ينبشها أعداؤنا، ويستلبونها/ إذاك، سنكون في خطر مضعف، دون حمايتهم./ كيف لنا أن نحيا دون بيوتنا/ دون أثاثنا، وحقولنا/ بل دون قبور أسلافنا المقاتلين وفلاسفتنا".
في باب مختارات من ديوان "إيماءات" الصادر 1970 يدخل ريتسوس في موجة تشكيل لغوي لرسوم قصائده، ليعود إلى سردية التفاصيل والصورة الشعرية العفوية بألوان الحزن الشاحبة، محتفلاً بالغياب والإهمال وشيخوخة المرايا التي تعكس فصول الماضي والرحالين: "بعد المطر/ تهجس زقزقة الطيور أكثر التفافاً/ وتشتتاً، ووحدةً/ والجبال تغدو فجأة،/ أكثر طولاً وكذلك الغيوم/. والألوان الرطبة أكبر على جدران المنزل-/ وردية، فستقية، زرقاء شاحبة".
في الباب الرابع، اختيرت القصائد من مجموعة "المرّ والسلّم" التي تبدو نصوصها المختارة أقرب إلى الحفر بالسكين على ليونة التأمل. هي فلاشات أخذ وردّ، أسئلة وحيرة، تسارع درامي في الصعود ومن ثم دهشة مباغتة، حيث يبتكر ريتسوس مشاهده الشعرية في مسرح الإيماء الذي لم يفارق مخيلة القارئ على طول المختارات: "تلكما العينان "مجوفتان"/ تتبعانك، تتبعانك/ أنت لا تستطيع الفرار،/ غادر./ تنكّر/ إنهما تريانك، تعرّيانك./ مسجلتين آلاف الإيماءات العديمة المعنى،/ على السكون الكبير".
كأنه يرصد الموت، أو يفعل الرعب بحذافيره، على سفينة من كلمات، وأمواج من سعير الخيال، يترك خطوط لوحاته، نحات الرقص، يصمم للفاجعة تاريخاً خاصا ويتركنا أسرى الذهول: "بذلك التحيز الذي يتسم به من لا يطيع الموت./ ذلك التحيز الماكر. المنافق، المستميت/ كان يؤكد أشياء غير مهمة أو غير موجودة/ ريشة الطائر الميت على الأشواك/ صدع نافذة في الجدار الأصم./ الخطوط على الجدار، رسم على جرة،/ رامي القوس مع الزنابق الواسعة/ رامي القوس يصوّب إلى شيء غير مرئي،/ في البعيد،/ في حين يرفع الميّتان بعناية،/ مستديري الظهر،/ وأمام النافذة:/ الملاءة البيضاء المربعة المنبسطة".
في مختارات ريتسوس هذه نعايش تجولاً بانورامياً لشاعر وفنان ومعلّم ثوري كان يحتفي بتفاصيل الحياة على أهون سبب للألم، حيث تختلط السياسة بالحياة الشخصية، والمراثي بصور المرأة، ويبقى الكادر العام عبارة عن سيل من الإيماءات الروحية والإنسانية المريرة تحاكي زمن الشاعر وتجربته الاستثنائية.