الأثنين 29 نيسان 2024 | 3:10 صباحاً بتوقيت دمشق
عامر البري

أنا المتدلّية من سيّدة الأرض

أنا المتدلّية من سيّدة الأرض
جلال بن عبد الله (1921-2017) فنان تونسي
  • السبت 4 تشرين الثاني 2023

من سيّدة الأرض:
(مسرحيّة شعريّة من فصل واحد..)
الشخوص: نادية وعلي.
الزمان: ليلة عيد الأضحى.
المكان: تحت زيتونة من حنبعل الكنعانيّة في أرض أخذت من الأسماء باب الزاوية.
المصدّر: (البداية الموسيقية للنوبة العوامريّة مثل الصدر، أو ما يماثلها التصدير)
(مباركة أنت.. مشرقة.
غريب جدّا مشوارك
بيدرك طافح وحصادك.
باب به الزاوية وضياؤك.)
استخبار:
(هي الآن على ساعديه... بين يديه... تحت رعشته إكليل غار يطوّقُ جبهته الناصعة)
صريح يتهاوى من علوّ الليل والناس حصيراً من نعاسْ.
لسلحفاته أنفاس المتمرّد..
تموء لصوت حذائه الخائف قطط باهتة، مندهشة من جلود الأضاحي المصفرّة بالزغاريد وبقايا الولائمْ.
تكوّر صاغراً..
للذي لا تمحيه ذاكرة..
للذي كان ولا يزال وسيّاً... تظلّ الجبال ولا يظلْ.
للذي... للذي.
حين تعجز البدايات عن وصف جبّته، تسقط عن جبينه شمعة مشتاقة للأفول.
بجوفه الانحناءْ.
في جيبه يتنزّه عود الثقاب، يراجع إثمه، يرجو سفراً في خطوط الظلام.
تخونه الذاكرة المرتبكة بين الأصابع،
بنصف اشتياقه للمعاشرة..
بعمق شهوته الدافئة..
تطوف رياحْ.
تنطفئ لوعة راقصة.
هو ظلام..
هذا الظلام يعيد إليه مجتمع المعرفةْ.
هذا الظلام سجن سعادته القادمةْ.
ينكمش كبرياِؤه.
يلوذ معطفه بالفرار.
سرواله المتراخي أغنية الباردين.
لماذا يخاف؟
لماذا تخاف؟
يا سيّد العامرين.
أضلعك زيتونة لا تكلّ، فرحمة بأبنائك الواعدين تسامحك الأنبياءْ.
تحدّثك النزواتُ عنها..
تحدّثك طَرَقات الدفوف.
جاءتك لتعيد للريح صولاته.
للقلق المتفاني في غيّه، للذين تكرّموا بالهروب، للخائفين.
تعيد للمشي تصوّره...للصور مشيتها.
للطين قرابته من نار أكبادنا الحارقة..
للزواحف لمّا تصير رماداً لعوباً..
للهدهد المقرفص في كبرياء السلاطين من تاجه تصنع أحجبة وطقوساً.
صيحته الخالدة.
دعوة للغارقين.
يا سيّدي وسميّي.
قرّب الضوء منها.. فحين تدغدغها رغوة الموج فجراً.
تنوبها النفس للنفس تحرس جبّانة الجبن والخائفينْ.
ترى وجه القشاش حصاناً يصهل في جبهتها، والسمك الأزرق المتآمر يذرّ رمل السواحل صدقة جاريةْ.
أعين بحجم حبيبات البنوك.
انفتاح الجيوب.
اتّساع المكان للمتطبّعين.
سفسفة الزمان
رهبة الياقوت من الآخرة.
رحلة التفتيش عن أسئلة شاملة لأجوبة مبسترة.
بوّابة العابرين فضّة ونحاسْ.
يا سيّد العامرين
منذ الصيحة الأولى..
ولادة المحترقات بماء الذكورة.
تسرّب الأبخرة في غازات الطفولة.
تدثّر الشرايين بالطريقة.
إنشاد وذكر.
هو الآن مختبئ في مختبر العمر.. ممدّد كليل شتاء حزينْ.
صوت تنفّسه العميق فحيح أفعى.
وعود الثقاب عنيد.
في العتمة
تشتعل سيجارة المبتدى والخبر.
ينتفض الجسد الأرجوانيّ في رقصة المنتهى.
لها ما تريد..
ولك الصبر.
إذا ما تعرّى الجسد..
يبرز الحلم في النوم شامخاً كالتبر والطين..
يراود تاريخنا الزئبقي..
أيّهما أنت..
أيهما هي..
هي أنت ...وأنت هي.
إذا ارتفعتْ.. انخفضتْ.
فالوثبة الخارجة منها في داخلك.
والوثبة الخارجة منك في داخله.

أفّاق... مذاق الموز في العتمة .
انحناء الحنّاء تطويق للفتنة.
رسكلة الانشقاق ليكون أكثر دبلوماسية.
تطويع الأوجاع للهدنة.
***
هو شوق ما داخلها.
سجن ما فيها..
يفتح لها شبابيك الرغبة.
ليرعشها رعشة.
لا تدري أهي لك
حين عزَفَتْ لك..
على عود الولولة الأولى.
ونَزَلَتْ لك من تحت فساتين السهرة.
قالت: إلى أين؟ الطريق صريح العبارة كوشاية ضامرة.
قلت: أودّعها سيّدة لم تبالِ بمن يحاصرني. (ومضت ترتقي سلّم الوجع المصطفى..)
(أمسكته بيدها المورقة بالظلال..)
قالت: دفنوا صحّة رأسها معها وزادوك على الحصار حصاراً.
قال: أبكي بكاءً خفوتاً على شاهد تربتها وأفوت.
(نبّهها ضوء شمعة خافت، تشمّ رائحة الزعتر عالقة في ثيابه، رائحة الشيح والفل والياسمين...عطور فاكهتها القاتمة)
قالت: لا شيء يخرج هيّناً من عيون أصابعي...
ريحك... طقطقة أصابعك في الليل.
تنفّسك العميق وأنت تحصد ضوء صباح الزّقاق لأجل صبيّة المخبزة.
وميض عينيك لمّا ترمقان نهدين نافرين.
ضحكتك المورقة كلّما هبّت الرّيح واغتصب الموج من الناس راحة بالهم.
اصفرار الوجوه حين تُبيّض وجه عشيقاتك بالقبلات خلف فحولتهم الواهمة.
إصرار غراب صغير أمام انحباس الحرارة عن والديه على رجمك بالسقسقات.
كان كمن كان يفاخر بك الطيرَ.
الإنس والجان.
لا والديه.
أنّه وُجد لهما في آخر العمر وجهان يقتتلان.
أكنت مستيقظاً يا علي؟
لمّا حملتُ على الطير ألاّ يفيضوا بدهشتهم.
وإن الغراب الصغير الذي طاف بك...
يهوى غوايتك.
دفن صرختك لأجل الذين امتدّ بهم العمرُ
ولم يستفيقوا.
أم أنك تظاهرت بالنوم؟
كي لا تلومك الطير على لؤمك.
إحساسك بسهولة امتلاكك للقريبين جدّاً..
جسارتها التي أفردتك أميراً على البرّ والبحر.
ولم تستسغها.
طفولتها وهي تعانق فيك خيال فارسها.
خجلها من دم حيضها كلما قُلت نضجت يا نادية.
قهوتك لولا ترنّم صوتك بمرارتها لكان القلب سكّرها.
إعمارك لمّا تنوء بك خمرة الدّهشة نحو مضجعها.
يغضب النوء عنها،
فيرجمها..
عالياً وحزيناً...
لأن لم تدلّ عليك العباد..
دلّت عليك الكلاب والقطط السّائبة.
هذا عشاؤك..
هذا ثوب نظيف.
(تمرّر أصابعها على ذقنه القاحلة)
(ترتعش النقطة الواصلة)
قالت: احلق الذقن، فذقن بهذا الأفول سحابة عابرة.
قال: ما الفرق بين ذقن كثيف، وذقن حليق..
فالجسد المختوم بالعاطفة، الكابي كفأر في جحره، كضفدعة تنعق في الشوارع...
يرقي بعود قرنفل أو حفنة ملح أحشائها المقفلة.
(وهي تحوم به في غنج ..عاصفة)
قالت: تمرّ العواصف.. جعلتُ لك المغاور والجحور ممالك وقصوراً.
يجري اللبان من لبن مضاد.
ترقص خلف صهيلك الجياد والفرس الحائلة.
(تدور به، كريح تدور ببناية خالية)
قال: يكفي دوّختني.
(سحبت الملاءة وارفة الظلّ والشطحات، تلفّ الرقبة الموغلة في التكبّر، يلامس وجهها وجهه المشتاق للزفرات.)
قالت: دوّخني.. بعينين كالجمرات.
أحلم حلماً أناشد فيه نسيماً طريّاً.
حين يدكّ الشفقُ الشّفق.
أتخيّل الدنيا ستنفلق..
وتغمرني الحمى..
والعَرق
يشقّ طريقه للسرّة...
للجسد المتناثر هنا وهناكْ.
يأتيني ماؤك متدفقاً يغسلني غسلة أبداً ما اغتسلتها.
قال: آن الأوان... أسلّم نفسي للقادمين على مهل في كتب المدرسة حرس القافلةْ.
قالت: سيسجنون سحب الجسد الرّاعدة، ونضيعْ.
نعدّ الزمان خلف مهرتك الواقفة.
قال: هو سجن هنا، أو سجن هناك.
(أشاح بوجهه نحو الأفق المستراب)
قالت: هذا سجن أزورك فيه كل ليلة يا روحي.
قال: والآخر سجن يخرجني من ذمّة روحي.
(استريحي.. هو الآن وشم في القلب به صورتك.. يكبر.. يكبر.. يغطّيه من الرأس إلى القدمين ساعة بعد ساعة حين يدغدغه، يمرّر يده، يدقّ على بوّابة أمضت العمر تنتظر حضرة أصابعه، يرْفعان الدّقلة والرمّان، وتُفركان في دسيسة الصباح.)
ككلّ صبيّة فاجأها أوّل الغيث.
كضوء كثير الحيا والخجل.
يدخل من شقوق الخرافات مرتبكاً وبطيئاً.
تختلط الزغاريد بنقر المفاتيح.
استريحي، كي يفرغ القلب والسهم والقدمين.
فالشفتين اللتان داعبهما صاحياً، مشتاقة لسكر اللّسان القريحْ.
قالت: فكّرتَ في حرقوصهنّ تتمرّغ في قرفته وعود قرنفله وما فكّرت فيّ.
يداي بلا حرقوص وبلا حنّاء، من أوّل الدّرب تردّان غباراً تصفّد على وجنتيك من سقم الرجال.
كأنّك من يركض خلف زوجاتهم.
قال: كلّ حضن أحضنه، وكلّ بحر أعوم فيه أتنفّس برعشتك، باهتزاز المواعيد في تينك الواحتين.
قالت: أشعر بك وبها.. ولا أحاسبك.
لمّا لساني يعانق لسانك ويناجيه.
أتذوّق ملح آخر امرأة أكلت معي خبزاً وملحاً ..
وأصمت.
قال: من فم الباب أهمّ بإخبارك عن حالتي، تسدّين فمي.
قالت: لو ينفتح فمك، يصوم قلبك عن الكلامْ.
قال: فقط حين أكون مثقلاً بالغضب.
قالت: أبداً ما مللتَ، أتعبتني.
ثيابك قبل الغسيل ألبسها ألف مرّة.
أهيم بها في رمال المرايا.
وحين يتراخى سروالك تحت ساقيّ.
أرفعه مرّة تلو مرّة.
أشدّ الحزام أبداً لا يُشدُّ.
أحسّ بجسدي ما عاد منّي وأدوخ.
ما أن تصير أثوابك بماكينة الغسل وتلمس الماء..
أجدني غارقة في مياهي.
قال: ما أردت لك الانزعاج، تلحّين بكلّ مرّة امرأة من زجاج.
قالت: حتى تدوم لي الدوخة المشتهاة.
قال: قاتلة رائحة الغار لن ينفعك العنكبوت.
قالت: أموت مع أدباشك إن كان عناق الحمام يعيّشك معي.
قال: لا أريد لك الموت.
قالت: ولا تريد لي الحياة.
قال: لا أريد لك الحياة في غار ملّ من شفاعته العنكبوت.
قالت: تحمّلنا معاً... لمّا احتضنتني وطرتَ بي تحول غصن الزيتون فراشة عطّرها عنبر الليل.
سلال من الزعفران، ياقوتة للذكريات.
(ما غرّر بك...ما يلزّك للمحبّة إلاّ المحبّة...نوّمك واحتمت غيمة بالتراب)
هل للمقام وهذه الحنّاء مكسوّة باحمرار الشفقْ.
أن يرقدا ويناما..
وأن تحترق بين ساق وساق مليون صرخة.
بين كفّ وكفّ حمامة مقصوفة الأجنحة.
من يده يخرج الصوت.
النرجس من تجاويف طفولته.
الظل خلفه كخطاف، يرتقي سلّم الوقت لمّا يصير مغرقاً في الظلام.
النفخ في فحم موقده المكسور على الطرقات.
قصبه المبشورة على الدرجات.
تطوف البلاد، عالية القدمين والرأس والكلمات.
*
باب البنات..
أغلقه شوقها للغياب امرأة من ضباب.
البرنس عافه الإخطبوط، عرق ساقط ويبابْ.
يا سميّي سيفرّ من أمام أصابعك الزمان.
وتدور دائرة المكان.
يعتلي الزبد القباب فتطحن سنبلة حبّاتها وتهيّأ ظهرها للعقاب.
من قال للحجر البهيّ يا سميّ أن يغدر بالصّحاب.
وأن يبوح بما رأى؟
رأى غزالاً..
ناقة تدخل الزاوية.
شمعة تسترق الخطوات..
بخور يعجعج في الخوابي
فوق الرّبى.. وفي الرّقيات...
حنّاء ترفل في الحجابْ.
"هل أنا نادية؟
هل أنا عاشقة؟
أم التي كانت سواي؟
هذه الصورة العائليّة، كان أبي جالساً، أختي مغمضة العينين، علي بنصف الثيابْ.
وأنا واقفة... لا لست أنا.
أنا المتدلّية من سيّدة الأرض على صدرك تتدلّى يدايْ".