السبت 27 نيسان 2024 | 12:7 صباحاً بتوقيت دمشق
أضواء المدينة للشعر ودراساته

«الطريق إلى متحف الآثام»: حلقة ليست أخيرة لمآسينا

«الطريق إلى متحف الآثام»: حلقة ليست أخيرة لمآسينا
غلاف الكتاب
  • الأحد 17 أيلول 2023

بحس عالٍ واستجداء للحياة أمام وابل الموت، لا يدري الشاعر السوري علي سفر إن كان قد ابتعد عن حتفه بما يكفي، ولعل الإجابة عن سؤاله هذا تستوجب فحص الدم والعقل وهذه الأوراق، التي هي مجموعته الأخيرة المعنونة بـ«الطريق إلى متحف الآثام». هكذا يبدأ السير في اثنين وتسعين صفحة وبثلاثة فصول، فقط، ليصل إلى مبتغاه «جواب عن سؤال» وما هي رحلة الشاعر سوى لهاث خلف أجوبة ومبهم يؤرقه!
ومثلما يشي تقديمه للكتاب، يبدأ الشاعر نصوصه وشذراته التي كُتبت في طرقات اضطر للمضي فيها منذ عام 2011 بهدف النجاة، بتعريف الموت على أنه أرجوحة دائرية، نقفز وسطها، ونهرب حولها، لكنها تبقى تلتف، وتأخذ ما تريد. ثم يتوسط ذلك بتعريفات أخرى كالوطن الذي اختصره بـ«حقل من أشجار الكلبشات». وهذه بداية الحصول على أجوبة للأسئلة التي دفعته للمضي في كتابتها، وهذا نزال مباشر وجها لوجه بين الشاعر وهواجسه، والأماني والحقائق. ومن المؤكد أنه لم يكن وحيدا في رحلته تلك، بل كان تشاركيا بحتا، جلب برفقته الآخر، الهموم الجمعية، والبلاد المثقلة بالخراب، ونحن، كجيش مكتظ بالجراح… فتكلم بلغة الجميع، بصراخنا وآلامنا، بما تركنا خلفنا، وما نستعد لمواجهته، كل ذلك بتوتر المذبوح المرمي لينزف ما تبقى من شِعره وشعوره، فيقول:
«أنا عين تتبع سقوط البرميل،
أنا مشافي حلب،
أنا بناء تهدم في نعيمة درعا،
أنا ثياب العيد على جسد أطفال استشهدوا في الزاهرة،
أنا الموتى في تربة اليرموك وقد نبشت القذائف قبورهم،
أنا… أنا…»
وهذه الأنا ليست سوى صدى لصرخاتنا، ومرآة تعكس هيئاتنا، ولأن الحزن لا يحتمل المواربة والرمز والاشتغال الفني، فقد كانت المجموعة بمعظمها مباشرة في طرحها، تحمل المشاعر وتلقيها في وجدان القارئ: «قتلوهم بين البساتين، وحتى الزهور التي زُرعت على قبورهم؛ دهستها الدبابات». وهذا ما أكسبها صخبا يشبه النواح، وما جعلها قريبة إلى حدود كل القراء، فلم يكن الشعر مادة نخبوية في «الطريق إلى متحف الآثام» ولا هو حكر على فئة دون أخرى، بل هو الصراخ الذي يطلقه أي جريح.
أريد أن أكتب قصيدة عن الأشجار
لكن المجازات عالقة بأغصانها المحترقة،
وبتراب أسود وسماء مسقوفة بالدخان.
لم يبق بعد أكفان 22 آب 2013
سوى دم الجوز والمشمش والجانرك، والخوخ والدراق،
كان يكفي قاماتها أن تبقى واقفة لنشعر أننا سنعود.
وقد يبدو للوهلة الأولى أن تركيب النصوص عموما أخذ مظهرا سلسا سهلا أقرب إلى السرد الشعري، إلا أن معدنه الداخلي ذو تركيب رؤيوي، يبحث في الفكرة، ويطرح وجهات نظر متعددة فيها، يُحاور، ويتغلغل عميقا في البداية والنهاية والأصل بتكثيف وإيجاز، وبدافع الاكتشاف:
يصبح الناس طيورا بعد الموت…
الأشرار تأكلهم حيوانات مفترسة مستعجلة
يصبح الحكماء بطارق
يديرون ظهورهم للمشهد الجديد!
وبالتوازي مع البيئة التي تلازم سطور الشاعر «دمشق/ إسطنبول، وطن / منفى» تبرز المرحلة الزمنية بوضوح تام أيضا، فمن خلال حالة فقدان الأمل والانكسار، الذكرى والحاضر، تتضح الهزيمة والخذلان التي يعيشها السوري في شتى بقاع المعمورة، وهي سمة المرحلة، وقد حاول علي إحاطة هذه الثنائيات بكليتها. وليس في ذلك وقوع في انعدام الهوية أو البحث عنها كما في كثير من النتاج السوري مؤخرا، بل أبرز علي هويته من خلال التصاقه بالبلاد ومآسيها، فقد أجرى محاولات لفرض حال من الاستقرار في حياته، فهو يدأب على تأثيث المنفى، يتفحص ستائره وشبابيكه، يقارن بين الصور المعلقة على جدار الوطن وبينها في المنفى، إلا أن محاولاته لا تنجح إطلاقا.. وفي حين ينشغل في زفر قصيدته كأنفاس أخيرة، تظهر تلك القصيدة محملة بقضية، على الرغم من جنوحها أحيانا نحو اليومي، وعلى الرغم من امتداد المجموعة على فترات زمنية طويلة، إلا أن القضية التي تبناها الشاعر منذ البداية، لا تفارق قصيدته ومقصده.
لا أعرف كيف أكتب عن دم يضيء في الليل
لو قلت إنه دم فوسفوري
لن يصدقني أحد،
يا لها من مهمة صعبة إقناع الآخرين
بما لم يشاهده أحد سواك.
بالطبع، ما سبق ينطبق على الجزء الأكبر من المجموعة. أما في فصل «مفردات لا تحتاج للشرح» يسلك الشاعر طريقا فرعية ليتوجه إلى متحف الآثام، فيأخذ حسه طابعا خبريا وينزاح إلى استخلاص الحكمة من رحلته وإلقائها علينا: «ليس المهم ما يسرقه الزمن، بل ما يخلفه وراءه، وسألتني: أرأيت كيف يمشي الغراب؟». وفي هذا الفصل يتأكد لنا أن الشاعر يمتلك نواصي اللغة وأدوات الشعر، إلا أنه يخضع في الفصل الأول إلى ما يمليه عليه الشعور بالدرجة الأولى.
هذه ليست مدينة مغطاة بغيم،
هذه غيمة محشوة بمدينة..
والعكس في بعض الأحيان واجب وصحيح..
طاقية الصوف نسيتها هناك،
في الدرج البني الذي سقط مقبضه من جهة اليمين،
غير هذه الطاقية لا شيء سيعيد الدفء للقصيدة…
وفي فصل رحلته الأخير، المسمى بـ»سيرة الأوشام» يأبى علي إلا أن تكون الأنثى حاضرة في فصول قصيدته، على الرغم من الخجل الذي اتسم به هذا الحضور، لكنه ربما يقصد البلاد أيضا فيكمل سيرتها، وربما هي الثكلى السورية، فيفرد لها مساحة صغيرة تطل منها وسط ازدحام الأوجاع.
«الطريق إلى متحف الآثام» تجربة مميزة في بنائها وشعريتها، هي حلقة متأخرة وليست أخيرة لمآسينا، بإخراج شعري فريد يستحق الركون إليه والتمعن فيه، إلا أنها – حسب رأيي – تأخرت زمنيا من حيث طرح الفكرة كمادة، لكن ما يغفر تأخرها عنا، أن الشعر وما فيه من ابتكار يبقى سلعة بتاريخ صلاحية مفتوح.

حسين الضاهر - القدس العربي