الجمعة 1 تشرين الثاني 2024 | 2:46 صباحاً بتوقيت دمشق
لطفي تياهي

هذه الشّوكة الّتي أمشي عليها لتكتبني

هذه الشّوكة الّتي أمشي عليها لتكتبني
رحيم جماعي (إنترنت)
  • الأربعاء 16 تشرين الثاني 2022

رسالة لنورس جماعي ابنة صاحبي الشّاعر رحيم جماعي

نورس يا كلّ الجميلات:

أوّل لقاء لي مع والدك كان في العاصمة، في مقهى نَبَتَ فوق رصيف دون استئذان أحد، كنت مُحنّطا أمام حديثه...
أنا يا نورس أحنّط نفسي بالتّبر الأسود، والمفردات النّادرة، أمام من يستحقّ أن أمشي بتابوتي جهة الغرب، لم أستطع أن أخطف رقبتي المقصوفة، إلى لباسه، أو نعله أو ساعته، لم أَرَ منه شيئًا غير لسانه الّذي كان يغزل المدينة بكلّ ناسها، حتّى ذاك العابر إلى الضفّة الأخرى من شارع الرّئيس، ولا ينتبه له أحد، مارّا إلى حتف كفّه اليابسة، يُزوّجها شغل اليوم، كنت أراه في حديث والدك، كنت ألتقط ما يسقط من فمه لأَبني أرصفة طريّة للمشرّدين الكُثر، وسماءً تعرف كيف تُربّي غيمها حتّى لا يكذب على الفلاّحين، وكنت ألائِم الرّيح لرصاصة طائشة، وباب الحدود لفارٍّ من أنياب وطن محشوّ بطَحِينِ ساسته، مع فلفل أسطوري، كنت أجزّ قطعان الفخامة رأساً رأسا وهو يتحدّث...
نسيت أن أقول لك يا نورس أنّني وسط كلّ هذا كنت مُحنّطا تماماً...
صدّقيني بُنيّتي، لم أجد فيه ما يُشبه سلالته أبداً، لذلك استبطنت يقيناً أنّ هذا الكائن لا يمكن أن يتزوّج ويُنجب، ولم أطرح السّؤال أصلاً، بل اعتبرته سيّئ الطّرح إلى أن قرأ لي نصّاً ذات حانة أنبتت نفسها بجانب همّ أشيب...
نصّاً قرأه بكلّ شرايينه، وصهيل الشّوق في كبده...
نصّاً مسح عن بلّور الحانة كلّ أطفال دخان السّجائر، وقطع كلّ حبال أراجيح ثرثرة الحاضرين في كؤوسهم يومها، قرأ وهو يُشعل غابات الأرض كلّها...
قرأ وهو يَصُبّ الزّيت على كلّ حروب العالم:
"لو كنتُ بحراً...
لعلوتُ على...
كلّ سواحل الأرض
فقط لأطِلّ على...
"نورس" في الجنوب."
عندها فقط يا نورس والدك، أيقنت أنّ بصاحبي وجع لم يُكمِل وهو في الخمسين تطريزه، وينتظر الّله ليكمل ذبح مزيد من قطعان الحزن، ليغزل صوفه ويُكمل وجعه المزمن، في عقر دار كبده الجّاف أصلاً لعناقٍ مع نورس...
عندها أراح كلّ خيول شوقه وأعاد رأسه إلى الخلف وتنهّد...
ثم التقينا ذات احتفاء، برحيّم جماعي الشّاعر في سوسة، ولم يكن يرى غيرك، كان ينتقل بين النّاس وهم فعلاً أناس يا نورس، وحده كان شاعراً بيننا...
ينتقل بينهم ويقول هذه نورس لِمن لا يعرفها، هذه قصيدتي الّتي لم أقرأها لكم، هذه الشّوكة الّتي أمشي عليها لتكتبني، هذه صاحبة كلّ القصائد، وصاحبة شعري وضواحيه، هذه الّتي سكنت الأقاصي، وعمّرت قلبي بالتّناهيد، هذه ال...وبكى...
تلك كانت المرّة التي أراه يبكي و أراكِ، صافحتك و أنا أنفث دخان كلّ سيجارة أشعلها رحيّم، قد يكون الأمر عاديّا بالنّسبة إليك لكنّه رحيّم الذي كَمَنْتُ له سنوات لأعرف سرّ لغته حتّى عرفتكِ...
شكراً لأنّك كنت هناك يومها...
المرّة الأخرى الّتي رأيت فيها رحيّم طفلاً في الخمسين، يوم نجاحك وتخرّجك، هاتفني و أنا كعادتي في مقهى النّخبة، هاتفني وصوته يرتدي ربطة عنق، وعطراً فاخراً لا أعرف كم من عام ذخّره، ليليق بتلك المكالمة فقط، هاتفني بصوت الحلوى وضجيج السّكر في قطعة مرطّبات، وهدنة طويلة الأمد فوق سماء اليمن وفي جيب العراق...
هاتفني وهو واقف، (لا تسأليني كيف عرفت) ...
هاتفني ليقول لي أنّني متأخّر دائماً على أعراس الأرض، وأنّ نورس نجحت، وأنا هادئ كأنّ ما يحدث طبيعياً...
صدقّيني يا بُنيّتي، كان يتيماً سمع أنّ عربة تبيع الآباء على مقاس شاريها في الخارج، فخرج يركض عاري القلب ليقتني فرحة...
طبعاً ألقيت القهوة السّوداء في جوفي دفعة واحدة وانتفضت...
انتفضت لأنّني أخاف على رحيّم من السّعادات، فهو غير متعوّد عليها، وخفت أكثر على السّعادات من رحيّم، فهو لا يستطيع تربيتها...
هل قلت لك يا نورس أنّ مرّة رحيّم ربّى سعادة صغيرة، كان يُطعمها قمح شعره حتّى صارت مقبرة...؟!
نعم صارت مقبرة، وأنجبتْ له دواوين كثيرة، وميراثاً من ضحكات صدئة...
المهمّ يا عزيزتي، هاتفني بفرح نادر كشاعر سعيد...
أمّا والدتك يا حلوة الحلوات، فهي مقدودة من صبر النّخيل الواقف وبقايا التّوت والآلهة، وعرفتُ كيف تلائمك ليضحك رحيّم يوماً من كلّ قلبه.

"صاحب والدكِ المُطلّ برأسه من بعيد ليقفز لفرحكِ".