الجمعة 19 نيسان 2024 | 9:55 صباحاً بتوقيت دمشق
علي الحسن

...وقابيل الموت أعمى طليق في "هواجس كوكبيّة"

...وقابيل الموت أعمى طليق في
"غلاف "هواجس كوكبية
  • الجمعة 25 كانون الثاني 2019

هي الأرض وقد ناءت بحمولات من الخيبات والشرور وتراكم فيها الخراب على مد البصر والبصيرة، وما زالت تحبو في تطلعات الأمل؛ الذي ما فتئ يخبو وينوس، ويعاود نشاطاً موسمياً هنا وهناك في غرف إنعاش تبث فيه الروح على مدار النبض، وفي المقابل تتشيطن كواليس الشر والخراب وتمارس لعبتها الأثيرة في إذكاء التيبّس، وتنشيط الخلايا الفتاكة في جسد الأرض، التي تمضي في دورانها اللانهائي في عزيمة تارة، وتارة في ترنّح ملول من وطأة حمولات الشر الفائضة.
هي الأرض؛ وطن الإنسان الذي طالما حلم بأن يكون هذا الكوكب الوطن نظيفاً، وللشعراء أحلامهم الكبرى العصية، ولهم تساؤلاتهم وهواجسهم.
القبح..واتساخ النوايا
طلال دفع الله شاعر سوداني يصدر ديوانه الشعري الأول، ويذهب في عديد من نصوصه إلى هذه الهواجس ويعيشها ويعايشها ابتداء من قريته؛ مسقط الرأس، وليس إنتهاء في منفاه؛ رومانيا البلد الأوربي الشرقي الذي يتشابك (حضارياً) مع أوروبا الغربية، ويحتفظ بالكثير من التقاليد المتوارثة عن الأجيال.
في ديوانه "هواجس كوكبية" المجموعة التي تتكون من ثلاثة أبواب: هواجس شاعرية، تخاريف كوكبية، وتقاسيم المشيب متبوعة بتلويحات وقصائد مهرولة تضيق الأرض بـ طلال دفع، ويحلم بـ كوكب نظيف النوايا والأيادي، ويتساءل: ماذا لو رحل الناس عن هذا الكوكب ورأوه ساعتئذ عن بعد، أيصبح وقتها بدلاً من حقيقة القبح الفاجعة ملاذاُ للتغني بالوهم؛ وهم الرجوع الجميل؟!
إنها التساؤلات مقلوبة الأجوبة، إنها أشكال من الإدانة للقبح وللوهم على حد سواء:
(أيها الوطن المستدير
متسخ النوايا والفضاء
أهي الصدفة التي أعتطك خصائص البيضة؟!
أيها الوطن
لولا هذا الدوران
وقانون الجاذبية الرعناء
وبعدك الخرافي
عن باقي الكواكب والنجوم
وأوصاب العناء
كنا نزلنا عنك
انتقلنا
وجعلنا منك قمراً
يصلح للغناء
وصنعنا منك وهماً)
الأرض والحبر الأسود
لكن الشاعر وفي موقع آخريعاود التساؤل على صيغة أخرى منفصلة متصلة، صيغة المعادلات الفيزيائية؛ صيغة الدهشة هذه المرة:
(لو قفز الناس جمعياً
في ذات اللحظة
فتلاشى ضغط الأقدام
على سطح الأرض لثانية:
أترها لو نزلت
تجد مواطئها أرجُلُنا؟!).
في مجموعته الشعرية الصادرة عن مركزميرغني الثقافي في أم درمان يذهب اهتمام الشاعر دفع الله وخياله بعيداً، إلى ما بعد الجبال العاليات حيث يكون التّشظي، بالوقت ذاته يلحظ حمى الإزدحام، إزدحام النوايا غير البرئية وإزاحة الأقدام، والبشر الذين "تكاثروا..دون فرملة وانفجروا كقنبلة ..وتقاتلوا حيث ما انتشروا.."
إنه القلق الذي يسكن الشاعر، والهواجس في إطارها الإنساني، إنها الـ (لو) الفيزيائية المرعبة فيما إذا عمّت فوضى الكون، وسادت الدهشة:
(لو أن شرارات نزقات
من إحدى الحمم البركانية
قد سقطت من سوء التقدير
وعبرت من ثقبٍ جوفي
نحو حقول نفطية
كم ستكون
ـ برأي العلماء الموتى ـ
أقصى درجات الجو على
ما كان يُسمى
بالكرة الأرضية؟!
يمضي دفع الله في الكثير من التساؤلات، عن الدم الفاسد في شرايين الأرض مثلاً، الدم الأسود الذي يغذّي شرايين السياسات المجنونة والصراعات الباردة؛ حامية الوطيس، والصفقات الموتورة في مطابخ صنّاع القرار، ويتساءل أيضاً:
(لماذا
هي الأكفان
بيضاء؟!
ألبياضها
تشتاق
الأوراقَ
الأحبارُ
السوداء؟!)
الكيمياء والشيب
في هواجسه الكوكبية يعود الشاعر أيضاً إلى الذات باعترافاتٍ أغراه الورق الأبيض ليسكب عليه حبر الذات في كواليسها المخفية أيام التفتح والصبا حيث كان (يبيع جوهر الكلام للعماة )، ويطلق النكات الخليعة، في دروب الغواية، غير آبه بما يقول الآخرون، كان يكفيه في عاطفة الحب المتدفقة أن يشعر أنه الوحيد بعين المحبوبة قشة نجاة، وهو الرسام أيضاً الذي يفرد لوحته القماشية على (رمل الصحراء) وصبرها بـ(حر الشمس)، ويرسم وجه الحبيبة بـ"الشمع بعود ثقاب يشهق في وسط الإعصار".
تضم المجوعة نصوصاً طويلة، وأخرى قصيرة اعتمد فيها الشاعر على التكثيف وحملت الإدهاش وقد برع فيها دفع الله حيث تركض القصائد رشيقة، ويعزف اتكاء على تقاسيم المشيب وهو يرى كيف أن النهر يغرق في شبر من البحر، وكيف يشيب المولود فتصاب خلاياه بالهرم، حتى أن "الكلب شاب حتى صار قطاً"، لكن الشاعر أيضاً إلى التطمين والـ سوناتا والغناء والعشق، وحتى أيضاً إلى الكيمياء،ويذهب إلى تقاسيم الفرح والأمل: "كل يوم تزيد جديلة الليل نجمة جديدة".
البلاد وظلمة الكفن
في نصوصه الطويلة يذهب الشاعر إلى العنقاء حيث عودته، وإلى رقعة الشطرنج ليرى أن أول الحرب الكلام، وإلى البلاد ومساءاتها حيث تفتتح القصائد والمصائد، ويبدي هنا عجبه من ذؤاب الموات والبارود يستلم النشيد، وهو يبدي عجباً على صيغة التساؤل:
(أي البلاد
لم تسلم بكارتها
فأنشأتِ النواح
في قلب الدموع
من ثم استدارت
من فرط لذتها
تلاحح كالمريد!!)
دفع الله هو الطبيب والشاعر مسكون بالحنين إلى الوطن، مخلصاً لذكريات الشباب هناك، وتجده مشغولاً بهاجس الحرية والحلم والعدالة الإنسانية المفتقدة ، وتشغله قضايا وأزمات الحروب والقتل والجوع والفقر، حيث كل الجبهات حصار وموات، وقابيل الموت أعمى طليق، آملاً أن تلتفت الإنسانية إلى السلام وتصغي إلى نغمته:
(سيداتي..آنساتي..سادتي
نحتاج شيئين
ننقذنا من ظلمة الكفن
حمامة
تطير في فضائنا
ولا تهاب في الخيال قصفنا
ووردة
تزين بالنضار أرضنا
ولا تخاف سيف قطفنا)
 

Image may contain: 1 person

طلال دفع الله عبد العزيز، شاعر وكاتب وطبيب بشري من السودان، يكتب القصة، ويكتب المقالات، ويعزف على: العود ـ الجيتار ـ الأورغ، درس الطب في جامعة الخرطوم وجامعة كلوج ـ جامعة كرايوفا/ رومانيا.