الجمعة 19 نيسان 2024 | 1:49 صباحاً بتوقيت دمشق
أوس حسن

صديقي المتمرد واللحظة الهاربة

صديقي المتمرد واللحظة الهاربة
ألكساندرا إكستر (1882-1949) فنانة روسية
  • الأثنين 23 كانون الثاني 2023

راقب أفكارك قبل أن تتحول إلى أحاسيس، راقب أحاسيسك قبل أن تتحول إلى أفعال، راقب أفعالك قبل أن تتحول إلى كارثة تلتهم حياتك عِشْ اللحظة يا صديقي بكل ما أوتيت من حياة وقوة.
وما هي اللحظة؟
اللحظة: هي ذلك الحاضر الأبدي في الذاكرة.
لا أخفيكم سراً أنّ صديقي المتمرد الذي أنجبته شوارع بغداد وأزقة الصعلكة، كان في فترة من الفترات تلميذاً نجيباً للشيوعية، وكان متأدلجاً بامتياز، لكنه تمرد على الشيوعية وتبنّى أفكاراً ومدارسَ أخرى كالعبثية والوجودية، ومن ثم تمرد عليها أيضاً وتمرد على نفسه وعلى جميع المثقفين، حتى لم يعد يرى من الثقافة إلا الجمال فقط، ولم تعد له هوايات محببة غير التعرف على النساء الجميلات، وخوض المغامرات غير محسوبة الجوانب معهن.
حدثني هذا الصديق ذات يوم ونحن نمشي في شارع طويل يعج بالمارة وضجيج العابرين، قائلاً: ألا ترى يا صديقي أنَ الزواج في زماننا هذا قد أصبح تجارة ودعارة؟
أنت تدفع مُهراً معيّناً من الذهب والمال لتشتري المرأة وتستعبدها في بيتك كجارية تقوم على خدمتك، وتمارس معها الجنس أنى تشاء.
إنه انتقال نسبي من عبودية إلى عبودية أخرى؛ من عبودية القبيلة والعشيرة إلى عبودية الزوج الواحد الأحد مقابل حفنة من الذهب، فلا صوت يعلو على صوتك ولا قرار يعلو على قرارك؛ إذ أنك الخالق والمشرّع، بيدك حياتها وموتها وإنسانيتها المستباحة في كل لحظة، كل هذا يقع تحت مسميات عدة؛ الدين.. الأعراف.. الله. إنهم لا يسرقون منك إنسانيتك ووجودك وإلهك فحسب، بل يسرقون منك حتى موتك، فتلك المرأة المسكينة المستعبَدة لا تستطيع أن تموت في حياتها ولا أن تحيا في موتها كما تشاء.
آه يا صديقي، لم يكن الوجود لنا يوماً، ونحن نحيا كالغرباء المجانين في هذه الحياة القذرة.
وهناك نوع آخر من النساء اللواتي يطلقن على أنفسهن المتحررات؛ تلك النساء تبحث عن الرجل "الجنتلمان" صاحب المنصب والمال والشهرة، ولا يرضين بأقل من هذا الطموح، وفي هذه الحالة لا يهمهن العمر أو الشكل أو الأخلاق، فالرجل بالنسبة لهن كتلة مادية أو كيان مادي خالٍ من الروح والأحاسيس. إنهن عاهرات القلوب والضمير يا صديقي، عاهرات بالفطرة الغريزية؛ لأنهن نتاج عملية وجودية معقدة، كان من المفترض أن يُلقى بهن في مزابل الكون لكن إنسانية الرب لم تكن لتقبل بذلك، لأنّ إنسانية الرب أقوى من الوجود ومن الحقيقة المطلقة.
بدأ الشارع يخلو من الضجيج والمارة، هناك شيء غامض داعب روحي كموسيقى قادمة من مكان بعيد، أصابتني رعشة تشبه رعشة الحنين، اشتقت لمعانقة ذكرى قادمة لم تولد بعد، هناك صلوات في قلبي ترتل سحرها الخفي.. الكون كله يجتمع في قلبي الآن، لا شيء يبدو جميلاً إلا ما يراه القلب جميلاً، قد يكون القلب أحياناً حكمة التائهين، ربيع المنسيين خلف الفصول المظلمة، وقد نموت مراراً دون أن نعرف أنّ الحقيقة تكمن في القلب. أخرجت سيجارة من العلبة، أشعلتها بهدوء وانطفأتُ مرة أخرى في ثورة صديقي.. وهو يستطرد في جنونه قائلاً: وهناك النساء اللواتي يطلق عليهن المجتمع تعبير "العاهرات أو بائعات الهوى"؛ هذا ما يطلقه السواد الأعظم على تلك النساء المعذبات في الأرض. أنا سأخالف كل ما اتفقت عليه البشرية في تاريخها، سأحطم كل الموروثات وأمشي عكس الدهماء، لأقول لك أنّ العاهرات هن أشرف من في الوجود يا صديقي...!
نعم أشرف من في الوجود...
هل تعلم أنّ العاهرة تملك من أسرار التاريخ والحروب والسياسة ما لا يملكه أيّ مؤرخ محتال أو سياسي كاذب، هل تعلم أنّ العاهرة أكثر قربا ًإلى الله من أيّ رجل دين زائف يسرق من الله رحمته، هل تعلم أنّ العاهرة تملك من السحر والغموض والولوج إلى ما وراء الأشياء، مالا يملكه أيّ شاعر أو فيلسوف شابَ رأسه وهو يبحث عن الحقيقة، هل تعلم أنّ للعاهرة إنسانية يبكي لها الرب، هل تعلم أنّ العاهرة تحمل من الدموع والآلام مالم يحمله قديس على وجه الأرض، هل لمست إنسانية العاهرة يوماً يا صديقي...؟
لا يلمس إنسانية العاهرة إلا الأنبياء.
آه أيتها المجدلية، لم يكن الزمان زمانك، ولن يكون لك زمان أبداً.
بئساً للأوغاد فإنهم يقتلون الله في كل مرة ويُجهِزون على ما تبقى من قلبي الجريح.
خيّم الصمت لبرهة ساد فيها التأمل العميق والولوج المعتم نحو النفس، عندها رمقني صديقي بنظرة ثاقبة مليئة بالتساؤلات والشكوك فقال لي: لم أنت صامت؟
قلت له: إني أفكر في اللحظة، قوة اللحظة، جمال اللحظة.
فابتسم بصمته الجميل المعهود وقال لي: وما هي اللحظة يا صديقي؟
تأملت الأفق والعالم من حولي كأنني كنت أرى الأشياء لأول مرة أندهش كطفل يلهو بالعالم. هناك طير همّ بالرحيل، وغيمة مهاجرة شرّعت نوافذ أحلامها لتعانقنا وتعلن عن آخر أسطورة منسية. قلت له: أنا أنا وأنت أنت، لم نكن يوماً مرايا للآخرين، نحن المنفيون من الريح إلى الريح، لا زمان لنا ولا مكان، لا أرض لنا ولا سماء، نحن المنسيون حتماً.. الغرباء يوماً.. والأحرار دوماً، ثم أطلقت ضحكة عميقة من قلبي، واستغرقنا في الضحك طويلاً، ونحن نمشي في زقاق مجهول، حتى تلاشت ظلالنا رويداً.. رويداً، كشمس ذلك النهار العجيب وهي تنكسر تدريجياً خلف الغيوم الحمراء.