الجمعة 19 نيسان 2024 | 7:31 صباحاً بتوقيت دمشق
عمر الشيخ

ميلينا عيسى: أنا التي أجيد العدّ بأصابع مبتورة

ميلينا عيسى: أنا التي أجيد العدّ بأصابع مبتورة
الشاعرة و غلاف الكتاب
  • الأثنين 5 أيلول 2022

يختبر الخيال مخزوناً بصريّاً، ذاتيّاً، فكلما كانت التفاصيل تخصّ حياة القصائد، أصبحت الإثارة الشعريّة، شهيّة أكثر. وما هي حياة الشّعر؟ إنّها التجربة الصادقة للكتابة الذاتية! وهذا هو الانطباع الذي وصلنا من نصوص الشاعرة السورية ميلينا عيسى في مجموعتها "وإن تكسّرت العناوين" (دار نينوى 2021).
مِن الغلاف الذي يترك سؤالَ البحث عن عناوين، ونحن نطالع قمراً واضحاً، وحيداً، يطل على جبل أجرد إلاّ من بعض الأشجار أو المعاني المنتظرة في الداخل، لذا علينا البحث بتفهّم عن تلك العناوين دون معرفة مسبقة باحتمالات الصواب أو عدمه.
تُعفينا الشاعرة من غواية العنوان، وتترك لنا حرية التذوق في كل جزء من المجموعة، فنشعر في تأويلات العناوين بهيبة الجسد، وأشكال الحبّ الصاخبة، صور الألم الإنساني، الكثير من الفقد، وخيط طويل من مناشير الذاكرة.
ومع "جسد أشبه بكاهن" نفتتح فصول المجموعة، نقع على لحظة اشتهاء للغريبة حيث تنمو الرغبة في مرآتها العارية، "أتعطش لإثم الغريبة يعطّل الوقت/ لتعصر العنب الناضج/ بخاتم سرّتها" ص11، ومنذ البداية تنبّهنا الشاعرة، ربما، إلى أن الجمال لا يسجنه النوع الاجتماعي، بقدر ما يحرره الاحتفاء بما يحلو للنفس من أنوثة أو سواها، وقصيدة تالية، تصف الشجرة بصورة رجل قائلة: "يقتصّ من الحسناوات بِكَيّ أكتافهن" ص12، وأيّة علامة هي تلك التي تدل على اشتهاء محموم اشتعل منذ القصائد الأولى؟ إنّها الأنثى تكتب بصوت النّساء؛ عنهنّ ثمّ عن الآخرين، وتلتقط الجمال بالرسم اللغويّ. ونحن نقرأ ونشكّل الصورة، تأتينا غوايتها، ويشتدّ الانفعال: "لا تردمي برمالك العمياء آخر الطريق/ وأسوار ذاكَ العناقِ،/ أيتها التي أعبد" ص13، ثمّ "كيف أمحو رائحتكِ عن أشياء الحجرةِ المُعدّةِ للهياج، واحتضان نساءٍ عابثات؟" ص14.
وفي موضع آخر من المجموعة وتحت عنوان "عدستي لو تلتقط ضحكات البداية" تحيلنا الشاعرة إلى نصوص أخرى تتكثف فيها المشاهد الشعريّة كشريط نداءات: "كم عظيمٌ أنتَ في قفزكَ الرماديّ،/ الذي لا يجيدُ غرزَ أنفاسه في لثةٍ بريئة" ص 22، بهذه الصرخة تواجه القصيدة، الجسد المنذور للحكمة والذي لا يعدو كونه متردداً غارقاً في المجازات، أمّا المرأة المرتفعة من جذورها لا تنتظر العودة, فهي على لسان الشاعرة تقول: "أغفو بعين واحدة،/ لستُ عشبةً بريّةً/ أنا نخلةٌ/ أراقبك من أعلى التلال" ص23، لا تقدّم كشف حساب لأحد، ولا تمطر قبل موعدها: "ما من وسادةٍ تجمع رأسين إلا إذا رأت/ حُلميهما" ص 26، وأخيراً تظهر ميلينا كاشفة عن ذاتها وبكلّ وضوح الألم تخبرنا: "في سبيل الشّعرِ أفشل في تسديد ديوني العاطفيّة،/ وأفتّش في جيوبهِ عن مضادّ للاكتئاب" ص 28، كأنّنا نريد أن نصل إلى تعريف للعنوان المفقود منذ البداية، وكأنّ على القصائد أن تجيب عن الأسئلة! وما حاجتنا إلى الجواب إذا كنا نقع كلّ سطرين في دوامة من متعة الصور وغرابة المفردات المبنية بسلسلةٍ جذّابة؛ فالقصيدة على صفحات هذه المجموعة قد تعرّضت للشمس بشكل جيد وللضوء بما يكفي من نضوج، وبين يدينا تنمو مجدداً مع ذاك القمر المطل على الغلاف كأن الشاعرة تقول لنا هذا عالمي الشعريّ، هذا شبقي على الصفحات برسم الغناء: "لهفتي تذوبُ في فمكَ وأنا أتأبط سكرتكَ" ص 38.
هناك مواضع عديدة في المجموعة يمكن أن نلتقط فيها "ضربات" خاصة، جمل شعريّة مستقلة بذاتها، وهي لا تنفي أهميّة القصيدة نفسها، إنّما حاولنا أن نجد قراءة مختلفة للقصيدة الحديثة هنا، إذ مهما اخترنا قطعاً من النصوص، بقية الحالة الشعريّة عالية وخاصة.
وما سبق من تجريب في محاكاة النصوص ما بين القارئ وفهمه الذاتي، ما هو إلا فرصة أتاحتها مخيلة الشاعرة للتجريب، إذ وحسب كلّ متلقٍ، تترك القصيدة أثرها وتأويلاتها بناءً على ثقافة الآخر- القارئ. تقول الشاعرة ما تريد، وحين يُنشر يصبح ملكاً للعالم، ثمّ لكلّ واحد منّا فرصته ليقول على قولها ما يشعره من آثار شعرية جديدة.
وباعتقادي أن النصوص الشعريّة التي تفتح الخيال لبناء نصوص أخرى من وحيها، هي امتياز يُسجل لمقدرة التجربة من تمكنها في لعب أدوار عديدة ضمن سرد شعريّ مكثف لامرأة تتقن التنقّل بين أصوات تصنعها أمامنا من لحم ودم, لولا بعض الحكمة في أمكنة تتناقض مع فكرة نصوص أخرى في المجموعة؛ بمعنى أن الشاعرة في مكان ما تصطاد بمرارة ساخرة حكمة أحدهم، ثم ما تلبث أن تقع هي في شباك الحكمة. تقول ميلينا: "اللعنة على أحصنة تلوك اللجام/ عند أقل هزيمة، / ... / السائس المغلوب يزيد من رعاف الطريدة" ص44، وهذا ما دفعنا للتدقيق أكثر في تنوع الأسلوب بين أجواء القصائد، فمنها ما هي طويلة بمقاطع قصيرة وهناك قصائد ذات سردية قصصية مخففة، وأخرى تتداعى فيها الصور المفاجئة كالنصوص ذات الطابع الأيروتيكي.
تمتلك مجموعة "وإن تكسرت العناوين" القدرة الخاصة على تقديم مقترحات فنية للقصيدة الجديدة، فهناك الاختزال للصور الفنية، لغويّاً، وتقديم التفاصيل دون كشف كلّ شيء، شعريّاً، مثل: "لأن قدري أن أعثر على ظلّي بين سيقان الفارّين،/ وقدرَ المتسولين عند بابي، التسلسل من ثقوبي المأزومةِ" ص 51. ثمّة الكثير من "الأنا" التي لا تنفك تتصاعد مع نهاية ختام المجموعة، تلك الأنا بكامل صدقها وانكسارها ومهاراتها واختباراتها وألمها ووضحها وشهوتها؛ إنها الأنا الشاعرة دون مواربة، تبحث عن "متبرع بقلب إضافي" ليحمل تلك الروح العاشقة، ذاك اللسان الصياد: "تحرشك بالأوثان لا يعني أنكَ سوف تشبهُ الآلهة" ص 57.
هناك الكثير من الطقوس اللاهوتية في المجموعة مثل "قدّاس لموت مؤجّل" وهو عنوان فصل لا يخلو من فقدان الزيت المقدس ورنين الأجراس في النهايات: "يا سيد اللاهوت! لن أحمل صكّ غفراني إلى أسرّةِ الأوباش/ أنا التي أجيد العد بأصابع مبتورة" ص70. إذاً، هي إعادة لإنتاج المخيلة الدينية عن الطقوس، وتناص في استخدام التعابير القديمة على نحو شعريّ معاصر، وهذا ما يمكن تلمّسه بقوة في القصيدة الطويلة التي تختم المجموعة بعنوان "أحجار القيامة" وهي عبارة عن عدة مقاطع مرقّمة، تترك انطباع المرويات الغرامية بقسوتها وشدة عشقها المعذّب مع كولاج بين حواريات من السماء، ومن الأرض، وبين الجسدين العاشقين "الطريقة الجديدة للحبّ، / أن نستعيض عن الرسائل بالقُبل" ص 85. ورغم هذه المرونة والرقّة في فاتحة القصيدة إلا أن الاعتراف المدوّي هنا يحيلنا للاستنتاج الجماليّ التالي: هل يصلح كل هذا الشبق أن يكون شعراً؟ "الحبل بين أصابع الأنثى،/ يتحول من أرجوحة للعشقِ/ إلى مشنقة لِمن رماهم سوءُ الرؤيةِ/ في الطين المتحرك" ص96. الإجابة لدى الشاعرة بتوحد الأرواح، ولا داعي لمصادرة ساعة الفرَجِ من عمر امرأة، ولا داعي لمزاحمة الخطوات: "بوابة الجحيم تتّسعُ لِكِلَينا" ص97.
إن الجمال في قراءة الذات هو إعادة اكتشاف أصوات المرأة في أجساد مختلفة، وهو معانقة تلك الرهافة اللعوب والرقص بين حقل من النصوص التي عادة ما تكون على هيئة أشجار رصينة الشكل، متقلّبة المزاج حزينة وصلبة، ولكنها آسرة، أو أجساد شهية تمارس الحبّ والحياة رغم ضجيج السّماوات والنصوص المقدسة ولعنة الغفران، وأين المفرّ من كلّ ذلك؟ إذا كان الشّعر في هذا الكتاب لا يتركنا إلا ويرفع نخبنا بصحةِ المُتعة.