الخميس 25 نيسان 2024 | 6:27 مساءً بتوقيت دمشق
فراس موسى

حُداء.. قبل أجيج الشعر

حُداء.. قبل أجيج الشعر
غلاف المجموعة
  • السبت 12 آذار 2022

لا أحد يعرف _حتى كتابة هذه الأسطر_ أين ومتى وكيف ولد ذلك الكائن الخرافيّ، القزحيّ العينين، الذهبيّ البشرة الذي يسمّونه الشعر؟ ولا أحد استطاع حتى هذه اللحظة إثبات أنّه يحتفظ في هاتفه الجوّال برقم يخصّ الشعر، أو يحتفظ ضمن سجلات مراسلاته عبر (الإيميل)، أو (الفيسبوك)، أو (الواتساب)، بمحادثة سريّة عجلى كان الشعر هو الطرف الآخر فيها، كما أن لا أحد أثبت أيضاً أنّه جالس الشعر، أو أجرى حواراً مطوّلاً معه، أو احتسى فنجان قهوة معه، أو شاركه نزهة صباحيّة.
كلّ ما عُرف عن هذا المخلوق العجيب عبارة عن أحاديث خاطفة وهمهمات وغمغمات وتمتمات أشبه بالهالات التي تزنّر الكائنات الأسطوريّة، والمخلوقات السحريّة، فقد قالوا إنّه متكئ على أضلاع المساء؛ يكدّس في جيوبه التي طفحتْ النجوم واحدةً، واحدة، وقالوا إنّه ترب أشرعة الصيّادين؛ يعبّ المدى المفتوح على احتمالات الدهشة والابتكار، ويخترق مثل سمكة رائعة عذريّة البحر، ثمّ ينفض في شغفٍ بادٍ عن جسمه الذهبيّ اللامع الماء، وقالوا إنّه يقاسم الربيع عزلته في كلّ موسم، ويساعده في إعداد المخطّطات وتهيئة التصاميم، ويفرش لمساته التي تقطر عسلاً على اللوحات التي أعدّها الربيع؛ لتكون عناوين معرضه القادم، وقالوا إنّه جليس القمر يزيّنه، ويضع له المكياج قبيل كلّ مساء ليتأرجح عنقوداً من الضوء البهّار، وإنّه ينضو قميص الشمس الهاجعة قبيل كلّ صباح لتطلع على الدنيا عرساً من البهجة والعافية، وإنّه يتسابق مع الفراشات الجذلى فوق مفارش العشب الخضيل، وإنّه يغزل الغيوم ويوحّمها، لتتوالد من أصابعه الرطيبة غيمةً نديّةً، وغيمةً على مسافة إصبع واحدة من النداوة، وإنّه يشارك الهواء الحافي تلاعبه بذؤابات النباتات والأشجار العالية، وإنّه يخضّب بدمه الأرجوانيّ اللامع راحَ المغارب الولهى؛ لتسفح عقيقها السيّال فوق جباه الأمداء الواسعة، وقالوا إنّه يدخل مخادع النساء، ويجاورهنّ مجاورةَ الطْيِب للزنابق، وإنّه يحتفظ في حقيبةٍ جلديّةٍ صغيرةٍ؛ يحملها بدفتر ذي غلافٍ أخضرَ حشيشيّ، يدوّن فيه أسرارهنّ وأفكارهنّ ونزواتهنّ وتقلّبات مزاجهنّ وطقوسهنّ، التي ما لها مواقيت معلنة، وطباعَ أثدائهنّ، ونصائحَ تقود إلى حدائقهنّ العارشة الموشّاة بالبهاء الراجّ والسحر المُذاب، وأحلامهنَّ التي حمّصها التعب الجميل، فصارت واقعاً أجمل، وأحلامهنّ التي لا تزال تلوب حيرى في تماوجات الشرانق، وقالوا إنّه يأخذ بيديه الطريّتين دموعَ الحزانى والمتعبين، وإنّه يتدلّى من أسقف السجون والسراديب المعتمة فانوساً له شعلة جميلة متراقصة ليمحو شقاء المعذَّبين، وقالوا إنّه كان يتهدّل على جدران الكعبة، وكان يجول في صوامع المتعبّدين وكهوف النسّاك، وقالوا أيضاً إنّ العشّاق يقصدونه مشّائين في دروب الرجاءات كي يبارك عشقهم، وإنّ العاشقات يرفعن أدراج الأدعية والأمنيات ليبللهنّ بمطر السعادة الذي لا ينقطع، وإنّه يدخل على الشاعر في زيارةٍ خاطفة، ثم ينسحب على رؤوس أصابعه كالبرق، تاركاً الشاعر يلمّ فتافيت قلبه.
ما هو الشعر؟
ما هي التعاويذ القادرة على فكّ السحر الذي يحرسه؟
ما هي الطرائق التي يمكن أن تُنزله من علوته، فيتجلّى؟
ما هي الخلطة الغامضة التي تنتجه؟
وأين هو القمقم الذي لو فركناه لخرج لنا مارد الشعر؟
فَلَكَمْ حاول عرّافون وسحرة، ومشعوذون وكهّان ومتنبّئون وضاربو ودع وأولياء وأصحاب كرامات، بما يملكونه من حيل وألاعيبَ وقوى وشطارة وأحابيلَ وسحر وخُدع وبركات وقراءات، أن يستميلوه فلم يبدُ، وأن يستعطفوه فلم يبزغْ، وأن يسترضوه فلم يهلّ، ولَكَمْ شيّدوا التوسّلات، ولكنّ الشعر كان أحذق وأمهر وأشطر، فلم يقع في أشراكهم، وظلَّ الشعر عصيّاً، سنيماً له كبرياء الملوك، وظلَّ الشعر ضوءاً مبهراً لا تدركه الأبصار.
هل تعرفون ما هو التعب الذي يغمر الشاعر، وهو يعيش مخاض القصيدة؟
هل تعرفون ما هو الوقت الذي يقضيه حتى تخضرّ القصيدة بين يديه؟
هل تعرفون ما هو الوجع الذي يلاقيه قبل أن تطفر القصيدة على بياض الورق جسداً من الذهب النادر؟
هل تعرفون ما هو المهر الذي يدفعه حتى يتزوّج القصيدة؟
إنّ هذه التعاريش الملغزة تمدّ ظلالها فوقي، رغم يقيني أنّ التعبَ تعبٌ جميل، وأنّ الوقتَ وقتُ خلق، وأنّ الوجعَ وجعُ ولادة، وأنّ مهر القصيدة لا يثمّن.
كيف تولد القصيدة؟
كيف تهجم دون موعد مسبق؟
كيف تتراكم على مهل شديد كما يتراكم الليل قطعةً قطعة، في أعماق العيون السود؟
كيف تزحف إلى مخيّلة الشاعر كما يزحف الربيع ورقةً ورقة، ويستطيب السكنى في أفضية العيون الخضر؟
إنّ القصيدة أنثى حرون، متقلّبة المزاج تواعدها، فتخلف، وتترصّدها، فتتوارى، وتقبل عليها، فتنأى، وتنتظرها، فتحتجب، وترجوها أن تمدّ الجسور إليك، فتغرق في نفورها المستمرّ، فلَكَمْ بنيتُ لنفسي جوّ الكتابة، وشربتُ براميل قهوة، وساهرتُ عريّ الأوراق، لاهثاً وراء التماعة حرف، أو شهقة فاصلة، أو هسيس كلمة، أو إشراقة صورة، ولكنني كنتُ أعود من ذلك الطراد المحموم بسلّةٍ خاوية، ولَكَمْ فاجأتني الكلمات، وراقصتني الأحرف وأنا أجلس في قطار، أو وأنا أهبط درجاً، أو أفترش مرجاً.
إنّ القصيدة ارتجافة مدهشة تضرب الشاعر، وتيار عنيف الدفقات ينفض أعماقه، كلَّ أعماقه، ودوخة تتسلّق قلبه، ونار يدخلها ولا يخرج منها إلا رماداً ليجد القصيدة تتموّج بين يديه كحوريّة من حوريّات الأساطير.
كلمة تناجي كلمة..
حرف يراود حرفاً..
سطر يسند رأسه على ركبة سطر..
فكرة تمدّ رأسها..
معنى يمهّد الدرب لمعنى وليد..
صورة تتلامع مثل ليرة ذهب..
هكذا تتكامل القصيدة مثل بدر، وهكذا يعيش الشاعر مدّ التكوين وجزره المتلاحقَين مشدوداً إلى حبال الغيبوبة؛ غيبوبةِ الولادة، لتخرج القصيدة أخيراً من بين أصابعه المرتعشة طازجةً، حارّةً، وتتطاير كراقصة باليه في فضاء الأوراق العطِش.
وشوشة طويلة أبوح بها، وأنا أقدّم هذه الأوراق الشعريّة الصبيّة إليكم، وأنا أقدّم قلبي إليكم.
أوراق شعريّة تغوص في الأقاليم الاجتماعيّة، والذاتيّة، والسياسيّة المختلفة، وتأخذ لقطات شتّى لكل ما هو أخّاذ، وجميل، وشارق على هذه الأرض.
قصائد مغسولة بالسعي الدائم لترسيخ فكرة فحواها؛ أنّه يمكن بالحبّ والحريّة وحدهما أن يحيا الإنسان، لذلك فهي تحرس خطا كلّ إنسان في هذا العالم، ليمشي في الدروب التي أثثتها أكفّ الجمال والمودّة والبهجة النضّاحة؛ الدروب التي تتوّجها الأسرار الممغنِطة، ويسيّجها الجمال الوارف، والقصائد تعمّر كوناً خاصّاً تجري من تحته أنهار الحبّ والفرح، وتظلله عرائش يكاد عنبها من فرط ما لفحته شموس المصافاة والألفة، أن يصير زبيباً ذا غرر شقراء، كما أنّ القصائد تنبش كمائن وخبايا الذات، وتقدّس القيم الإنسانيّة النبيلة، وتحاول تسييل الأسئلة القلقة، الحارقة، وطمر الأسئلة الرخوة.. الكسيحة.
قصائد تحاول أن تقول أنّه لولا المرأة لكانت الحياة خرائب، وأمكنة أشدّ سواداً من الفحم، لذلك فهي تخوض في فراديس المرأة المخبوءة، وتتغنّى بها، وتُعليها فوق كلّ شيء، كما أنّها تدثّر شؤون المرأة بالاهتمام الذي لا سواحل له، وتؤكّد أيضاً أنّ المرأة ستبقى مهما دار الزمن، ومهما تغيّرت الفصول؛ نبعة الماء الدافقة التي تدور حولها ومن أجلها الأحاديث والأخبار والأسرار والحكايات والأشواق التي لا تنطفئ.
والحبّ، هذه الأيقونة الخرافيّة النضيرة التي لها بهرة الفجر، تحتفنه القصائد أيضاً، وتُشعل له الترانيم المصلّية، وتفرش تحت قدميه الملوكيتين الكلام الوريق.
إنّكَ ستشمّ روائحه المتضوّعة بين السطور، وستجده طفلًا مشاغباً، وهادئاً، قلقًا ومطمئناً، نزِقاً ورزيناً، شرساً ووديعاً، فوضويّاً ومنظّماً، لكنّه يبقى رغم شيطنته، ورغم جميع طقوسه غير المتوقّعة، ورغم ضبابيّة طباعه ذلك الطفل الجميل الذي نعبده.
غير أنّكَ قد تقع _وأنتَ تقرأ هذه القصائد_ على مقطع تفوح منه رائحة البارود، أو مقطع يلبس الخوذة الواقية من الرصاص، أو مقطع هارب من مدن الاستبداد والقتل الجماعيّ، أو مقطع على نقّالة الجرحى، أو مقطع يتوسّد غضب المحتجّين، لذلك فإنّ هذه الأوراق الشعريّة تقارب الواقع العربيّ الراهن وتلامسه، وتعاين بعض جزئيّات الحرب التي تطحن الجسد السوريّ.
همسات ناعمة أشبه بنوتات موسيقيّة، وأخرى غاضبة أشبه بأفواه البراكين تسند خواصر بعضها بعضاً، تتآزر وتتكدّس في تآلفٍ ضافٍ كالموجات الصغيرة التي تلحس أجساد الشواطئ، لتتشكّل من هذا التزاوج سمفونية هادرة ترنّم في هدوء وصفاء شديدين: الحياة.. الحياة.
__________________________
هذه النص افتتح به الشاعر فراس موسى، مجموعته الجديدة "الموت رقصاً" الصادرة عن دار موزييك، وتم نشرها بالاتفاق مع الشاعر.