الثلاثاء 16 نيسان 2024 | 11:8 مساءً بتوقيت دمشق
ياسر اسكيف

الشعرُ كمُنْتَهِك ٍ للخصوصيّة

الشعرُ كمُنْتَهِك ٍ للخصوصيّة
وضاح السيد، فنان تشكيلي سوري
  • الجمعة 8 شباط 2019

(الكتابة الجديدة وعلّة السعي إلى الانتماء) وكأنما الشعرُ قد بات دون صفاتٍ تدلُّ عليه، أو جوهر يحتكم إليه في انتمائه، إذ صارَ ما هو ليس واحداً من أصناف النثر (رواية-مسرحية-قصة-مقال-....) أي أنه الكتابة المارقة التي من دون أصل.
التسميات صفات، جمع من العناصر والخصائص المتماثلة، وليس المشتركة فحسب. والصفة اسم لشيء بحد ذاته في شروط محدّدة، وهي غيرها في شروط أخرى. فالظاهرة، أية ظاهرة، إذ تكتمل، وتستقرّ، متوقفة عن إبداء أي شكل من أشكال التبدل والتغيّر والانحراف تصبح تسميتها وتصنيفها وتوصيفها أمراً في غاية السهولة والدقة. إذا ً ما من اسم يسبق المُسمّى، والتسمية فعل تال حتى لو أن آدم قد تعلّم الأسماء كلّها. وإن كان من تسمية سابقة على مُسمّى فهي مجرّد انعكاس لروح الأبوية الطغيانية التي تتجسد بأسماء الأبناء أحياناً، والتي تمتد لتشمل ظواهر اجتماعية (تصوّر أشكال من الحكم مثلاً) أو أدبيّة (الحديث عن كيفيات فنية والتخطيط لإنتاجها كأية سلعة. النَفس الطليعي في بعض الاتجاهات الأدبية الحديثة مثلا ً)
في العربيّة عُرّف الشعر وسمي: الكلام الموزون المُقفّى. وعمل الفراهيدي على دراسة الإرث الشعري العربي حتى تاريخه موجداً القانون الناظم لكل ما هو ضمن الإطار الذي تنطبق عليه شروط التعريف. وما افتقر إلى أي شرط من الشروط فهو شيء آخر ولا يسمى شعراً. من الواضح تماماً بأن تعريفاً كهذا شكليّ بامتياز. ولكنّه إلى حينه كان شاملاً لكل المضامين التي تطرق إليها ما سمي شعراً. وصار الأدب، بناء عليه، شعراً ونثراً. وأما النثر فتعريفه ما ليس شعراً. وهذه مُغالطة واضحة تفترض ضمناً بأنه ما من منظوم غير الشعر. ذلك أن النثر هو عكس النظم وليس عكس الشعر. وهنا لا يعود من تناقض في القول بأنه لا تباين بين الشعر والنثر. بل أن الشعر واحد من أنواع النثر. مع أن الأبحاث التاريخية في مجال الفنون والآداب تشير إلى أن النظم والايقاع في الكلام سابقان.
هل من تعريف للنثر على قاعدة التعريف الذي للشعر؟!! أي تعريف يمكنه أن يحدّد ما هو، وما يميّزه عن غيره في الآن. إلا القول: ما ليس شعراً. وعلى هذا الأساس قسّم الأدب إلى شعر ونثر. الأول يضمّ ذاته فحسب، والآخر يضم طيفاً عريضاً من الأشكال والاصناف، أي كل ما هو كتابة. بما فيها الفاتورة التي نأخذها من المتجر.
لنترك الشعر بحاله إذا متميّزاً عن النثر بالإيقاع والقافية (النظم) ولنبحث عن مكان ملائم للكتابة الجديدة (أية كتابة جديدة) في المساحة النثرية، حينما تضيق عليها المقاييس القبلية لأنواع النثر (الرواية. القصة. المسرحية. المقال. الدراسة. البحث. ... إلخ) ولننتظر حتى تفرز أية كتابة جديدة مجموعة من الخصائص والقيم والصفات التي يمكنها أن تشكل معياراً يخصّها دون غيرها وبالتالي يقترح لها ما يمكن اعتباره صفة مميّزة أو اسماً. مع التأكيد على أن الأبحاث والدراسات التي تصدّت لهذه الكتابة (على أنها قصيدة النثر !!) بما فيها ما قدّمتهُ شخصّيا ً في كتابيّ (الحداثة المعطوبة والسلالات القلقة-دار الطليعة الجديدة-دمشق 2006 – الوجود القلق والذات التائهة-دار ليندا-السويداء 2011) لم تستطع حتى الآن، وهذا طبيعي تماماً مع ظاهرة في طور التشكّل، أن تحيط بالآليات التي تعتمدها الكتابة الجديدة، والتي تجعل منها اختلافا ً يكفي للتسمية والتوصيف.
قصيدة النثر. الشعر الحر. الشعر المنثور. النثيرة. ... إلخ هي أسماء وتصنيفات دفاعية تستبق الرفض المتوقع لكيفية كتابية جديدة وتشكّل انتحال صفة فاضح يجعلها دوماً بحاجةٍ إلى وصي يُيسّر قبولها ويسيّر أعمالها. فأي قيمة مُضافة يمكن لكتابة غير منتمية أن تتحصل عليها بانتحال صفةٍ لا تمتلك من مقوّمات الانتماء إليها شيئاً إلا ما يمكن أن يكون شرط انتماء إلى أي نوع من الكتابة. وأقصد الغاية أو الهدف.
قد يقول قائل ما الضير في الإصرار على الانتماء إلى الشعر؟! وهل تقدّم التسمية، أو تؤخر من القيمة الإبداعية للنّص؟!!
بالنسبة للسؤال الأول أقول بأن هذا الإصرار يؤكد حدوداً لمساحة دون حدود. فالكتابة الجديدة هي أكثر مغامرة وارتياد للمجهول وأكثر اقتحاماً لآفاق جديدة. فلماذا تريد أن تقيم جدران سجنها وتقلص حدود طموحها. وبالتالي تأتي الإجابة تلقائية على السؤال الثاني.
بهذا المعنى (التواجد كعباءة) يصبح الشعر مُنتهك لخصوصية الكتابة الجديدة (الجدة هنا لا تخصّ الزمن بالتأكيد) ولكن هذا لا يحدث بتلصّص، وربّما استباحة، من الشعر كفنّ، وكآلية استقبال وإحساس، إنما بدفع وتحريض من النزعة السلفية الحاضرة دوماً عند الكثير من الكتّاب الذين لا يجرؤن على الإيمان بأن كتابتهم تختلف وتفارق ولا تشبه، وأظنهم الأقدر على ملاحظة ذلك.