السبت 20 نيسان 2024 | 4:1 صباحاً بتوقيت دمشق
نجيب نصير

النشر والانتشار والتخمة

النشر والانتشار والتخمة
حسان بورقية - فنان مغربي
  • الأربعاء 27 كانون الثاني 2021

يقودنا الاطلاع على إحصاءات الطباعة والنشر والقراءة في العالم العربيّ؛ إلى ملاحظة أرقاماً مفارقة جداً لحركة النشر في العالم، على الرغم من الانفتاح التواصليّ الإعلانيّ، الذي يقدّم هذه السلعة (المطبوعات) بطريقة مناسبة للاستهلاك، إلا أنّ هذه الأرقام ما زالت ترواح في مكانها لم تتغيّر بالنسبة إلى عدد السكّان من قرّاء العربيّة.

لكن _وبالمقابل_ هناك شريحة واسعة من القرّاء، مصابون بالتخمة من القراءة، ولا يستطيعون مواكبة النشر العربيّ الغزير، الذي تطالبهم الإعلانات المباشرة وغير المباشرة، بقراءة منتوجاتها لضرورتها في حياتهم الاجتماعيّة والمعرفيّة، إلى حدٍّ يمكننا معه التساؤل: كم يستطيع الإنسان الفرد من شريحة هواة القراءة أن يقرأ خلال فترة زمنيّة معياريّة تنفع في ضبط هذه الإحصائيّات؟

كتاب؟ كتابين في الشهر؟ أم أكثر بقليل؟ خاصّةً وأننا نعرف أنّ هاوي القراءة هو الهدف الرئيس لإعلانات التسويق، ولا تبدو أرقام عدد نسخ الطبعة الواحدة بعيدة عن هذه المعادلة، بصرف النظر عن نوع المادة المنشورة (رواية، رواية مترجمة، شعر، قصة، مسرح، دراسات، مذكرات... إلخ) وبصرف النظر أيضاً عن الغاية من القراءة نفسها (إمتاع ومؤانسة، استزادة معرفيّة، مجاراة اجتماعيّة، تدعيم إيديولوجيّ، أم غايات بحثيّة ودراسيّة).

على هذا _أي على إمكانيّة الفرد الاجتماعيّ للتفرّغ للقراءة_ تبدو شريحة القرّاء مصابة بالتخمة، وتشعر بالتقصير أمام هذا الكمّ الهائل "نسبيّاً" من المطبوعات؛ فآليّة الإعلان تضغط على رؤوسهم، ليس بولادة مطبوعات جديرة بالقراءة فحسب؛ بل بمطبوعات يجب أن تقرأ بالضرورة، فمن أين يمكن توفير الوقت اللازم لقراءة كل هؤلاء الكتّاب الجديد منهم والقديم؟ وذلك ضمن أداءات اجتماعيّة، يتقاسمها الفيسبوك، والواتسآب، والأفلام والمسرحيّات، ومسلسلات منصّات الأنترنت، هذا إذا استطعنا إفراد وقت خاص للعمل وتحصيل لقمة العيش، التي يشاركنا ثمن الكتاب قيمتها.

على الصعيد الشخصيّ؛ نعم أحسّ بالتخمة من القراءة، أمام هذا الكمّ الكبير من عروض القراءة بالعربيّة (ورقاً وشاشةً)، خصوصاً عندما يخيب الظنّ بعد القراءة، وإضاعة الوقت/العمر، بما لا يجدي ولا يمتع.

ليبقى ذاك السؤال الممض، الذي يشعرك بالتقصير والذنب؛ هل قرأت رواية فلان؟ أو ديوان علتان؟ أو كتاب ضرّاب الألحان؟

وإذا أجبتَ بنعم، سيعيد سؤالاً ممضاً آخر: هل قرأتها جيّداً؟ هل تمعّنت في لعبة الزمن فيها؟ أو تأمّلت في علاقة المذنب بالخطيئة؟ إلخ إلخ....

في عالمٍ عربيٍّ شحيحِ القراءة، تبدو الإصدارات هائلة ومتنوّعة مع ولادة هذا الكمّ من الروائيين والشعراء وجامعي الأمثال الشعبيّة، ومع التسليم بأنّ هذه الشعوب تحتاجها وبشدّة، ولكن التعويل على هذه الشريحة لوحدها في التسويق،

فيعتبر عقوبة قاسية بحقّها؛ فالقراءة ليست مجرّد "فكّ الحرف"؛ بل سياق حياتيّ، يوظّف الطاقة الإنسانيّة في مناشط شخصيّة، تأخذ وقتاً وجهداً هي الأخرى، والقارئ ليس عبداً عند الناشرين وأصحاب المكتبات، ولا عند "علاكي الثقفنة" من أصحاب الأسئلة الممضة، فليعرف المؤلّفون والناشرون بأنّ القارئ زبون، من حقّه أن يركل أيّ منتج طباعيّ، مبدع أو تافه، كلاسيكيّ أم حداثيّ، يناسبه أو لا يناسبه، فالمسألة ليست ثمن كتاب فقط بل مسألة وقت وعمر، فإن شاء قرأ، وإن لم يشأ فهو حرّ، فـ"القرّاء" ليست مرتبة اجتماعيّة يتحصّل عليها المرء لمجرّد التباهي.