النسق البديل في 'التفاتة نحو نغمة خافتة'
الغلاف
- الأثنين 17 نيسان 2023
كه يلان محمد
يقدمُ النص الإبداعي الوصفة التي تمكنُ المتلقي من فك رموزه والتقاط ظلال المعنى في بنيته والإبانة عن مقاصده الدلالية وهذا لاينفي دور الأدوات النقدية في الإضاءة عن هوية المعطي الإبداعي بقدر مايؤكدُ الأولوية للتفاعل الحي مع مُناخ النص وديناميته في تعدنة لفظية للوقائع الحياتية والظواهر الوجودية.ومن نافلة القول بأنَّ التذوق هو ركن أساسي في التواصل مع المنجز الإبداعي بقطع النظر عن نوعه أو علامته التجنيسية غير أنَّ التذوق يكتسبُ قيمة أكبر في التناول الشعري،لأنَّ ماتقومُ عليه مستندات الخصوصية في الشعر ليس الاسترسال ولا الفضفضة التعبيرية بل الكثافة في القول والمفاجأةُ في إعادة التركيب والمغامرة في تقويض الأنموذج الذهني والحس الاحتجاجي على المتعارف عليه في صورة الأشياء، وبذلك يتم تأسيس مقومات القول الشعري.وتنشأُ بذور الكلام المُنفصل عن اللغة السائدة.
ترتادُ الشاعرة اللبنانية أصالة لمع في مجموعتها الشعرية الأولى "التفاتةُ نحو نغمة خافتة" نحو مدارٍ تتداعي فيه الأنساقُ المألوفة ناشباً من ذلك شكل جديد للعلاقة بين المعطيات المرتدة على قيود الإرساليات الواقعية. وتستشفُ من مفردة العنوان مرونة في التنافذ مع مداليل الأسطورة.إذ تحيلُ عبارةُ "التفاتة" إلى ما يعقدُ على الفن من الرجاء والتمنى للتحول في سيناريو المصير، أكثر من ذلك فإنَّ الغاية من إيراد الرموز الأسطورية أو التناص مع الشخصيات التاريخية تتمثلُ في كسر محدودية السياق الزمني، والانطلاق باتجاه السعة الدلالية،يذكر أنَّه باستثناء عتبة العنوان لايتخللُ الملمحُ الأسطوري والرمزي داخل تفاصيل هذه المدونة الشعرية.
الانزياح
الشعر حدث لغوى والانزياح هو من أهم مكوناته ومعنى ذلك أن النص الشعري لايمكن أن يكون التعبير الأمين الصادق لكون غير عادي بل هو التعبير غير العادي لكون عادي حسب رأي الناقدة "يمنى العيد" ومن الواضح أنَّ الفعل الإبداعي يهدف إلى تثوير اللغة والصياغات ومايتبعُ هذه المغامرة هو التغيير في الإدراك للبداهات الحسية والعقلية مايجدرُ بالذكر هنا أنَّ الشعرَ لايعتبرُ نسقاً مُناقضاً للعقلانية أو تخلياً للمنطق إنما تذكيرُ بأنَّ ماهو موجود ليس حلماً متحققاً كما أنَّ ما ينتهي إليه التفكير العقلاني لن يكونَ كل الحقيقة،لأنَّ للشعر أسباباً قد يتجاهلها العقلُ عليه. لاتختزلُ وظيفة الشعر في معاينة الواقع المشهود أو الارتحال بصوره إلى وعاء اللغة فهذا المنطق الأداتي لايلبي المتطلبات الشعرية. والملمحُ الشعري اللافت في نصوص أصالة لمع يتجسدُ في العدول عن الصورة المعهودة وفض الترابط القائم بين الوضعيات المعينة ومايقابلها من الوظائف والأدوار المحددة. وهذا ماتراه بالوضوح في قصيدة "الجسور/عبور وشرود" إذ تسردُ الشاعرةُ بالضمير الأول مايُتوقعُ من الجسر أن يؤديه من الوظائف لعلَّ أبرزها العبور من نهر أو من هوة سحيقةِ،أومن الأشياء التي تراكمت في الأعماق منها حب لم يدخل متحف الذكرى وحلم ليس قيد التحقق وخطأ تناسلت منه قبيلة من وساوس الندم. ويسترسلُ الصوت مذكراً بأنَّ الغرض من الجسر في معجم الحياة العادية ليس أكثر من الوصول. ومن ثمَّ تنفتحُ بنية النص على فن التشخيص عندما تسبغُ الشاعرة صفات إنسانية على الجسر وهو إضافة إلى الوصول يحصى التقاءات الأمكنة المستحيلة.مستبطناً هاجسه من الهاوية. يتسلسلُ النصُ بنفس مشهدي إلى أنْ يتمَ اكتشاف ما هو منسيُ في طيات الأيام ،وغاب عن الاحساس. يعلنُ الصوت بصيغة خبرية أن الأشياء قد تولدُ منها أشياء أخرى تفوقها جمالاً "هكذا صارت الجسورُ أجمل من الضفاف، ودوار أن تكون واقفاً فوق الهاوية أجمل من الخطوة تجتاز بها عتبة بيت دافيء" وفي الختام تفترضُ الشاعرة احتمالاً آخر.
"ربما لم نبنِ الجسور للعبور فقط
إنما للشرود بها أيضاً
وكل شرود عبور"
مايزيدُ من التوتر في دلالة النص هو المستوى التركيبي والتعارض بين المفردات "ربما-إنما" ضف إلى ماسبق فإنَّ التوازنات بين الحروف والأصوات المشتركة بينها تضفي إيقاعاً موسيقياً على الصياغة التعبيرية.كذلك ففي قصيدة معنونة ب"أخلع النهار عني" تتواردُ العبارات المحمولة بقوة التشخيص وهذا المسعى ملحوظ من دال العنوان. إذ تروم الذات الشاعرة أن تنضى عن عالمها الخاص كلَ ماتسرب إليه سواءُ أكان رياءً منقولا إليه بالمُصافحة أو قصائدَ الحب التي يرددها الجميعُ ولاتخلفُ لديها سوى رهاب الابتذال. هكذا مع كل حركة موحية بنهاية النهار تستعيدُ أنا المُتكلمة موقفاً عابراً وبذلك يكون الزمنُ منشقاً بين زمنين ما يُقاسمها فيه الآخر الأوقات وما تنفرد به مُخففةً من إكراهات الواقع. ولا تقفلُ الشاعرةُ نصها إلا بحركة مباغتة
"حين يجيءُ الليلُ
أصير وحدي
أغرقُ في الصمت والعُتمة
خفيفة الآن كما أنا
أبحث عن نوم
بلا أحلام."
والمتأملُ في الجملة الأخيرة يدركُ مخالفتها الدلالية لمرجعية القاريء لأنَّ المعروف من الحلم هو الوظيفة التعويضية لما يحرمُ منه المرءُ في حياته الواقعية يشارُ إلى أنَّ طيفَ قصيدة محمود درويش المنشورة في ديوانه "كزهر اللوز أو أبعد" بعنوان "لا أنام لأحلم" يلوحُ في تلافيف المقتبس المذكور آنفاً. تعودُ لمُعْ في النص الموسوم ب"الضباب جزءُ من الطريق " إلى موضوعة الحلم راسمةً ماهيته كما تبدو لها.
باكراً عرفتُ
أن الحلم طريقُ
بلانهاية
يصير معه الاكتفاءُ
وهماً.
المعمار الشعري
ينهضُ معمار القصيدة التقليدية على نظام الشطرين المتناظرين بوصفه ركناً لبنيان النص وتماسكه كما أنَّ الموسيقى الخارجية المتولدة من الوزن مكونُ آخر في منظومة الشعر الكلاسيكي فيما الصورة هي قوام للشعر الحديث وماتقعُ عليه ضمن العنصر الصوري له جذور في الواقع لكن مايختلفُ هو شكل العلاقة بين الأشياء في السياق الشعري. وفقت أصالة لمع في بناء في الصورة المركبة التي تمدُ النص بشحنات عجائبية وما تعاينهُ عن العلاقة بين الوقت والذكرى مكتنزُ بطاقة بصرية بحيثُ يذكر المتلقي بثيمة الزمن كما تبدت في بعض لوحات فنية .
الآن
يمكن لذكرى كانت رمحاً في خاصرة الوقت
أن تطفو على سطحه
كقارب مثقوب
لا يعبأُ به أحد
سوى الريح.
ومن المعلوم أن الإبداع لايقتصر على التكوين الشكلي بل يلعبُ البعد الرؤيوي دوراً بناءً في تحقيق فرادة النص وتميزه في التفاعل مع الحقول المعرفية المتعددة. تحومُ ظلال الأفكار في نصوص أصالة لمع كاشفةً عن رؤيتها للحياة وماهو جوهري وثابت في التجربة الوجودية والحال هذه تتفادي لمعْ التعقيد اللغوي والالتفاف في السبك الشعري وهذا مايضيف إلى أسلوبها الانسيابية وأفضل الشعر يمكن أن يقال بلغة شفيفة وبسيطة.
مايشدُ النظر في محتويات العمل هو التنوع في استخدام الضمائر لحياكة الجملة الشعرية ومن الطبيعي أن يغلب ضمير المتكلم على النصوص التي تتناول الهموم الذاتية . مايجبُ قوله في هذا المقام أن أصالة لمع تمكنت من نحت لغة معبرة عن زخم شعري وتعكسُ كتابتها حساسية عالية في تهندس الكلمات ولعبة إرجاء المعنى.
_________
المصدر: ميدل است أونلاين