"الهايكو" ياباني فقط!
تمثال للشاعر الياباني تاكو بوكو في طوكيو - مصدر الصورة (Hakodatenomachi)
- الأحد 1 تشرين الثاني 2020
يخضع النص الشعريّ في ثقافتنا السوريّة خصوصاً والعربيّة عموماً؛ بشكل أو بآخر لقواعد راسخة في ذهن القارئ منذ أن تعلّم على مقاعد الدراسة أنّ الشعر مجرّد مجاز ووزن وقافية وموسيقا وإيقاع وتفعيلة، وكلّ نصّ خرج عن هذه الأنماط يعتبر طعناً للتراث العربيّ الشعريّ، ولكن في قراءة ثقافة شعوب الأرض لا يمكن أن نطبّق هذا المفهوم الجافّ والجامد الذي يحبس المخيلة ضمن شكل ومنطق لغويّ واحد، حتى فترة زمنيّة ليست بطويلة منذ نحو نصف قرن؛ بدأتْ تدخل إلى المكتبة العربيّة ترجمات عن لغات أجنبيّة مختلفة، ولعلّ كلّ ترجمة كانت تحمل بصمة مختلفة عن غيرها، فتنوّعتْ الرؤيا وأصبح بالإمكان النهل من الترجمات الأخرى للخروج من بيئة اللغة العربيّة التي قيّدها الشعر التقليديّ وجعلها تنصاع طواعيةً لأوامر الوزن والقافية، حتى لو كان البناء الفنيّ والجماليّ بمنأى عنها لا يهم، ولعلّ أبرز ما دخل إلى مكتبتنا الحديثة هو الترجمات عن الأدب اليابانيّ وتحديداً عن فن "الهايكو" في كتابة النص الشعريّ القصير الذي يعتمد على اشتغال شديد بالصورة، وعناية مميزة باللقطة السريعة والذكية.
وقصيدة النثر في سورية وفي العالم العربي ليست سهلة القراءة على أنّها شعر، من قبل أغلبية المثقفين؛ لأنّ معاييرها حتى الآن غير ثابتة وغير واضحة الحدود، في قصيدة النثر لا نعرف أين يبدأ الشعر وأين ينتهي، في غالب الأحيان نقرأ سرداً أقرب إلى القصة الذاتيّة، وأحياناً أخرى تتقاطع قصيدة النثر بنيةً ورؤيةً _ما عدا الإيقاع العروضيّ_ مع قصيدة التفعيلة، ولاسيما الملاحم الطويلة وهذا ما يجعلها مرتبكة، مراوحة في نفس المكان، يشبه بعضها بعضاً لدى أغلبيّة ممثليها.
قدّمتْ دار التكوين الدمشقيّة كتاباً من العيار الثقيل ضمن هذا السياق، وكان بعنوان «كتاب الهايكو» الذي يتضمّن ألف هايكو وهايكو، ترجمها وقدّم لها الشاعر السوريّ المقيم في اليابان محمد عُضيمة، بمشاركة المستعرب كوتا- كاريا؛ قد لا يساهم هذا الكتاب كثيراً في قلب موازين الذائقة، إلا أن نخبويّته الأدبيّة تضعنا أمام رهان حقيقي يترك أسئلته برسم المتلقّي ونمط الثقافة الداخليّة التي يبحث عنها في شعوب أخرى قد لا تسمح له الفرصة بالتعايش معها.
وضمن مقدّمة مطوّلة يضعنا عضيمة أمام سبب ترجمته لهذا الكمّ الكبير من روائع الهايكو، متناولاً أبرز مفاهيم هذا الفن التي تصل لأكثر القرّاء بطريقة مغلوطة؛ كأن يسمّى الهايكو: قصيدة هايكو. مع أنّ كلمة هايكو تقسم إلى قسمين: "هاي": ومعناها المتعة والإمتاع، «كو»: معناها لفظة أو كلمة وعبارة، وهكذا لسنا مضطرين لأن ندعوها "قصيدة هايكو"؛ فتشكيلها كما هي باللغة الأم يقدّمها على أنّها "كلمة ممتعة" أو "عبارة إمتاع"، كما أنّها تعتبر الشكل الأكثر التصاقاً بالروح اليابانيّة؛ نظراً لقصرها وشدّة قوّتها التعبيريّة التي تقول ما يودّ اليابانيّون قوله.
لا يقتصر الشعر على وصفه حالة إمتاع روحيّة وحسب، ويكمن سرّها بالمزاج الشخصيّ لكلّ قارئ، ولكن إشكاليّة فهم الهايكو تتداخل بمدى وصوله عبر التذوّق أكثر منه عبر الفهم، على عكس تجارب الشعر الحديث التي تأخذ شكلاً فلسفيّاً أحياناً يقوم على منحى فلسفيّ وتجريديّ يقدّم الحكمة، وقد هرب قرّاء هذا الزمن من تلك الأشكال لشدّة تشابهها وتناسلها.
يلعب الهايكو، كما يقول عضيمة في كتابه الجديد؛ دوراً جوهريّاً في تأصيل الهويّة اليابانيّة، وتعتمد بنيته البصريّة على روح الضحك والعبث والتسلية، حيث ينقص الإنسان العربي الكثير ليصل إلى تلك المكاشفة في تذوّق فنّ الهايكو، ولكن هل نستطيع أن نتذوّق الهايكو بلغة الضاد؟! وماذا ستعني بالنسبة للقارئ العربيّ _عاشق المطوّلات_ ستّ أو سبع كلمات يتكوّن منها الهايكو الواحد؟ ويدور موضوعها حول شيء قد يكون بلا قيمة بالميزان العربيّ للقيم الشعريّة.
هنا يضع عُضيمة اللوم على الميتافيزيقيا في حرماننا تذوّق أشياء الطبيعة لغويّاً، حيث يقول: "يبدو أننا لم نتعلّم كيف نتذوّق أشياء الطبيعة، أو كيف نحتفي بها لغويّاً، إنّها التربية الدينيّة الميتافيزيقيّة من جديد؛ تكتم الأعين والأنوف والأفواه".
لقد تحوّل القارئ العربي إلى عالم الرواية بسبب التشابه الكبير الذي يعيشه أكثر الشعراء في قصائدهم، ولعلّ ظهور قصيدة الومضة المشابهة للهايكو الياباني هو أحد الآثار الإيجابيّة التي أعطت النص الجديد حداثويّة لغويّة وفنيّة مختلفة مع محيطه وثقافته، وهنا لا نعني رسائل الموبايل التي درجتْ في الآونة الأخيرة على أنّها نصوص ومضة شعريّة، إنّما نريد بذلك الشكل الأقرب للحياة، حيث التماس المباشر مع أشياء الطبيعة، بعيداً عن الكنايات والتشبيهات.
إنّ العلاقة مع الطبيعة هي مصدر الهايكو الجماليّ؛ حيث يرسم الهايكو بالكلمات منظراً طبيعيّاً بسيطاً وحقيقيّاً، يحتفي بالهدوء وسط الطبيعة ويفتح بوّابة المخيّلة للسباحة في تفاصيل غريبة ومضحكة أحياناً، وأحياناً أخرى حزينة، وهنا أختم بهايكو ياباني من كتاب "ألف هايكو وهايكو":
بكلّ ألق
تحطّمت الفراشة
وليس هناك من أثر.